في ذكرى الاستقلال… ما موقف المناضلين من الاحتلال؟
كانت جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية — سابقًا — الدولة الوحيدة في العالم التي اعترضت رسميًا على دخول مشيخة الإمارات العربية المتحدة عضوًا في الجمعية العامة للأمم المتحدة والجامعة العربية، ولم تعترف بها كدولة عقب استقلالها عن الاستعمار البريطاني عام 1971م.
ولم يكتفِ قادتها الرفاق بذلك، بل أنشؤوا في عدن جبهة مقاومة بهدف “تحرير الإمارات من النظام الرجعي والإمبريالي” كما كانوا يسمونه، إضافة إلى تحرير الجزيرة العربية والخليج واليمن الشمالي من “الرجعية والاستعمار”.
ووصلت شعاراتهم التقدمية والوحدوية والاشتراكية إلى درجة كانت تأسر من يسمعها عبر إذاعة عدن، حتى ليخيّل للسامع آنذاك أنّ الجمهورية الديمقراطية قد أصبحت قوة عظمى يُحسب لها ألف حساب، وأنّ قادتها التقدميين لن يسمحوا بعودة الاحتلال أو الاستعمار بأيّ شكل من الأشكال. غير أنّ الأيام كفلتَ أن تكشف زيف تلك الشعارات التي خَدّرت مشاعر الجماهير وجعلتها تصفّق حتى التهبت أكفّها.
وها نحن اليوم نحتفل بالذكرى الثامنة والخمسين ليوم الاستقلال المجيد وخروج آخر جندي بريطاني من عدن — والتي صادفت يوم أمس الأحد 30 نوفمبر 2025 — فيما الاحتلال يعود إلى المحافظات الجنوبية والشرقية منذ عشرة أعوام، وبموافقة ورضا أولئك الذين كانوا بالأمس يحاربون “الرجعية والإمبريالية”، ويطالبون بإسقاط نظام الدولة التي تحتل الجنوب اليوم، ولم يعترفوا بها عقب استقلالها. وما يزيد الأمر غرابة أنّ معظم القادة الذين خاضوا الكفاح المسلح لطرد المستعمر البريطاني يعيشون اليوم في عاصمتها أبوظبي!
وهنا يبرز السؤال الخطير، ليس موجّهًا إلى أولئك المناضلين الذين تخلّوا في آخر أعمارهم عن راية النضال — فشوّهوا بذلك تاريخهم وقزّموا أنفسهم بعد أن كانوا هامات عالية — بل إلى أبنائهم وأحفادهم:
هل من المعقول أن يأتي جيلٌ من أبناء وأحفاد ثوار 14 أكتوبر، الذين هزموا الإمبراطورية البريطانية وهي في أوج قوتها، ليعيدوا الاحتلال من جديد؟
هل يعقل أن يسمحوا لدولة كانوا يصنفونها “كيانًا رجعيًا إمبرياليًا” بأن تتحكم اليوم في مصير الجنوب اليمني، وتذلّ أبناءه، وتنصب المشانق والسجون، وتزج بالشباب في الجبهات ليقاتلوا بالنيابة عنها، وهي تتفاخر بأنها “حررتهم” بينما احتلت أرضهم وجزرهم؟
أليس من المفارقات أنّ الشمال — الذي أصبح اليوم في نظرهم “المحتل” — كان هو الخلفية النضالية التي احتضنت ثوار الجنوب؟
أليس هو من فتح مدنه وقراه وقدّم المال والسلاح والرجال حتى تحقق الاستقلال في 30 نوفمبر 1967؟
ومن أعجب المفارقات أنّ ما يجري اليوم في المحافظات الجنوبية والشرقية من سيطرة واضحة للمحتلَّين الجدد — السعودية والإمارات، ومن معهم من مرتزقة — يحدث أمام أعين من تبقى من مناضلي 14 أكتوبر، دون أن يُحرك معظمهم ساكنًا. بل إن بعضهم راضٍ عمّا يحدث، بل ومشارك في تنفيذ الأجندة الخارجية، خصوصًا أولئك الذين يقيمون في فنادق الرياض وأبوظبي، ممن كانوا يصنفون أنفسهم “تقدميين واشتراكيين ووحدويين”، ثم نسوا كل ذلك وانبطحوا أمام بريق المال، فباعوا وطنهم وكرامتهم.
وقف هؤلاء مع تحالف العدوان الذي قصف اليمن ثمانية أعوام متواصلة، وقتل شعبه ودمّر بنيته التحتية، ثم احتل المحافظات الجنوبية والشرقية للعام العاشر، دون أن يسمح لمن يسمونها “الشرعية” بأن تعود إلى المناطق التي يزعمون أنها “محررة”!
فماذا نسمّي ذلك؟
تحريرًا… أم احتلالًا وتفريطًا بالسيادة الوطنية؟
وهنا جاء حدث مفصلي غيّر المعادلة: ثورة 21 سبتمبر الشعبية 2014م، التي صحّحت مسار التاريخ وكشفت الحقائق التي تم تشويهها عمدًا، فالتفّ الشعب اليمني تحت راية واحدة، ودولة واحدة، وقرار وطني مستقل، ولم يشذّ عن ذلك إلا العملاء والمرتزقة. ولذا جاءت الثورة صاعقة على رؤوس الأعداء، وخاصة جارة السوء السعودية، التي انكشفت مؤامراتها وفشلها الذريع.
ثم جاء العدوان البربري على اليمن، الذي أرادوا من خلاله تدمير كل شيء وإعادة اليمن عقودًا إلى الوراء، لكن الله أراد للشعب اليمني نصراً آخر، فانتصر اليمن على أعتى تحالف عرفه التاريخ الحديث.
واليوم، ونحن نحتفل بالذكرى الثامنة والخمسين للاستقلال، نقول:
إذا كان إعلام العدوان يصرّ على قلب الحقائق ويقف مع الجلاد ضد الضحية، فإنّ على أولئك الذين يمثلونه في الداخل — وقد جُنّد كثير منهم — أن يتقوا الله في وطنهم، وأن يرتفعوا فوق الخطابات العنصرية والطائفية التي تُكتب بإملاءات الأسياد والممولين في الخارج.
وليعلم الجميع أنّ اليمن اليوم يمثّل أهمية كبرى للعالم، بعد أن أثبتت قواته المسلحة قدرتها على حماية الوطن والدفاع عن سيادته، وأنه يقف شامخًا في مواجهة ثلاثي الشر: أمريكا وبريطانيا وإسرائيل، إلى جانب الشعب الفلسطيني في غزة، في موقف لم تستطع أكثر من خمسين دولة عربية وإسلامية أن تتّخذه رغم جيوشها الجرارة، باستثناء إيران والمقاومة في لبنان والعراق.
والسبب واضح: جيوش بُنيت لحماية الأنظمة… لا لحماية الأوطان والشعوب.





