احتلال الحديدة..مأساة الماضي وأطماع الحاضر!
26سبتمبرنت / علي الشراعي
تظل مدينة الحديدة هي الرئة الاقتصادية والشريان الذي يربط حكومة صنعاء بالعالم الخارجي لذلك أدرك الغازي والمحتل أهميتها الاستراتيجية فجعلها ورقة ضغط سياسيا وعسكريا واقتصاديا يساوم عليها لتحقيق أهدافه وأطماعه في اليمن .
الحُدَيْدة (بضم ففتح فسكون مدينة وميناء على ساحل البحر الأحمر على بعد بمسافة 228 كم جنوب غرب صنعاء . وهي منطقة رملية مالحة ذات رطوبة تطفو على الأرض وماؤها شديد الملوحة , كما أن مناخها حار يصل إلى 49 درجة في الصيف . يرجع ابتداء ظهورها إلى القرن الرابع عشر الميلادي كمنطقة صيد ثم قرية ومن ثم استخدمت كمرسى للسفن سنة 1455م , وميناء صغير عام 1514م أيام السلطان عامر بن عبدالوهاب الطاهري . وسيطر عليها العثمانيون بغزوهم الأول والثاني لليمن وصارت قاعدة عسكرية ومنطلقا لهم إلى صنعاء. ومع نهاية الحرب العالمية الأولي 1918م احتلتها بريطانية ومن ثم سلمتها لشريف عسير الإدريسي عام 1923م حتى تمكن الإمام يحيى من السيطرة عليها وأعادتها لحكومته عام 1925م .
تدمير ممنهج
في يناير عام 1516م تعرضت الحديدة لهجوم نفذته قوات السلطان المملوكي الغوري وتمكنت من احتلالها ودمرت منازلها بعد أن نهبت كل ما تحويه حتى الأخشاب والقمح بذريعة مطاردة البرتغاليين .
وفي منتصف القرن السادس عشر وصلت السفن التجارية الهولندية إلى الحديدة بعد أن أقام الهولنديون مراكز تجارية في كل من المخا والشحر .
وفي القرن السابع عشر الميلادي كانت الحديدة ثاني أهم الموانئ اليمنية بعد ميناء المخا تبحر منها سفن التجارة وسفن الحج وبها أساطيل حربية للدولة العثمانية, وفي القرن الثامن عشر الميلادي أصبحت الحديدة من الموانئ الأساسية لتصدير الُبن حيث أزاحت كلا من ميناءي المخا واللحية ونافست ميناء عدن في الأهمية وصارت مدينة تجارية مزدهرة وفد إليها الكثير من التجار والحضارم والهنود, لقد كانت الحديدة في تلك الفترة منطقة تجارية مهمة دخلها من الجمارك عظيم حيث قدرت كميات البن التي صدرت من مدينة الحديدة سنة 1778م حوالي 12 ألف طن .
وفي القرن التاسع عشر تعرضت الحديدة للاحتلال والتدمير من عدد من الحملات العسكرية ففي سنة 1809م دخلتها قوات آل سعود قادما من عسير وهدم وخرب المدينة كما تعرضت للاحتلال من قبل القوات المصرية, وتمكنت القوات العثمانية في عام 1849م من احتلال مدينة الحديدة ثم اضطرت للخروج منها وأعادت احتلالها سنة 1872م واتخذ العثمانيون مدينة الحديدة قاعدة لهم وجعلوها مركز إداريا يضم كلا من زبيد وبيت الفقيه وريمة وباجل وحجور وأبي عريش .
وقد ازدادت أهمية الحديدة اقتصاديا منذ افتتاح قناة السويس 1869م حتى أن عدد السفن التجارية التي كانت تصل إلى مدينة الحديدة بلغ 80 سفينة في الأسبوع, وخلال النصف الأول من القرن العشرين أصابت مدينة الحديدة كوارث عديدة, ففي عام 1912م تعرضت لقصف السفن البحرية الإيطالية كما التهمت نيران حريق نحو ثلاثة آلاف بيت شب في المدينة في نفس السنة.
وفي عام 1918م سقطت المدينة في أيدي القوات البريطانية, وفي عام 1923م سلمها المحتل البريطاني لشريف عسير الادريسي, ثم استطاع الإمام يحيى استعادتها سنة 1925م, وفي عام 1934م احتلتها القوات السعودية لوقت قصير, وحاليا تنقسم محافظة الحديدة إداريا إلى تسع عشرة مديرية تقع سبع عشرة منها في سهل تهامة ومديريتان في الجبال هما برع التي تطل على مديريتي باجل والسخنة ومديرية جبل رأس المطلة على مديرية حيس.
اقتراح بلفور
مع نهاية الحرب العالمية الأولي وهزيمة المانيا والدولة العثمانية وانتصار الحلفاء ولتنفيذ قرارات اتفاقية موندروس فيما يخص البند السادس عشر الذي يقضى تُسلم القوات العسكرية العثمانية الموجودة في الحجاز واليمن وسوريا والعراق في أقرب وقت ممكن إما للحلفاء أو للممثلين من العرب وقبيل استسلام أحمد توفيق باشا قائد القوات التركية في اليمن قامت القوات البريطانية من قاعدتها البحرية في عدن بتنفيذ الخيار الثاني الذي اقترحه أرثر جيمس بلفور وزير الخارجية البريطاني في رسالته بتاريخ 28 يونيو 1918م حيث هاجمت القوات البريطانية مدينة الحديدة واحتلتها في ديسمبر 1918م في محاولة للتضييق على الإمام اقتصاديا, فالحديدة مدينة تجارتها واسعة وملاحتها عامرة وبها شبكة اتصالات جيدة وهي ميناء صنعاء الطبيعي .
وللتخفيف من غضبة الإمام وإبطائه عن العمل العسكري ضد الإنجليز فقد كتب المعتمد الإنجليزي في عدن للإمام يحيى غداة احتلال الحديدة بقوله : (لنحافظ على الأمن والنظام فيها وسنعيدها قريبا إليكم ) ..لقد رأى الإنجليز في احتلال مدينة الحديدة عامل ضغط على الإمام يحيى يحقق هدفين في آن واحد فسيجبره على سرعة إخلاء اليمن من الأتراك من ناحية , ودفعه للقبول بالمقترحات البريطانية من ناحية أخرى, ومن الحديدة سيكون الاتصال بالإمام أسهل والتفاوض معه بالشروط البريطانية والضغط عليه لتحقيق الأهداف فإن مرابطة وحدة عسكرية بريطانية في الحديدة سيسهل الاتصال بالإمام ويدفعه إلى الإذعان لمطالبهم.
الانتداب وتقرير المصير
استمرت العلاقات اليمنية البريطانية في تدهور نتيجة مواصلة القوات البريطانية في احتلالها لميناء الحديدة وإمداد قوات الإدريسي بالأسلحة والذخائر ورفض المقيم السياسي في عدن استيورات في 19 يناير 1919م مقابلة مبعوثي الإمام يحيى الذين وصلوا من الحديدة بدعوى اتصال احد أعضاء الفريق بقنصلية أجنبية (أمريكا) وتسليمه رسالة من الإمام إلى القنصل الأمريكي في عدن يبدي فيها رغبته في عرض مطالبه على مؤتمر السلام الذي سيعقد في باريس, وقد أرسلت بريطانيا الكولونيل جيكوب للتفاوض مع الإمام يحيى بصنعاء عام 1919م إلا أن قبائل بمدينة باجل احتجزته فعاد إلى عدن.
ويتضح من الوثائق البريطانية أن السياسة البريطانية كانت تحاول خداع الإمام يحيى بشأن مدينة الحديدة فقد نشط الضباط البريطانيون خلال عام 1920م للالتفاف على مطالب الإمام الإقليمية الخاصة في الحديدة فأوعزوا إلى بعض أعيان الحديدة رفع الاسترحامات والاستعطافات والالتماسات بواسطة الحاكم السياسي في الحديدة الميجر ميك ثم بواسطة الحاكم السياسي في عدن للرفع بذلك إلى لجنة الأمم (عصبة الأمم ) التي ستجتمع في باريس في مؤتمر الصلح يعبرون فيها عن مطالبهم تمشيا مع القاعدة المنشأة بين الدول في حق تقرير المصير. وجاء في هذه الاسترحامات المملاة من الضباط البريطانيين :" نحن سكان الحديدة من مثقفين وسادة وتجار وأشراف نسارع بتقديم هذا البيان ونطلب من الميجر ميك الحاكم السياسي في الحديدة نقله مشكورا إلى لجنة الأمم ".. ويبدي الأعيان رغبتهم في الإبقاء على القوات البريطانية وعدم تقليص أعدادها بدعوى حماية أهل الحديدة من هجمات البدو أو من قبل قوات الإمام أو الإدريسي حتى لا تنهب المدينة من قبل هؤلاء جميعا, وهم يرغبون في إعادة دولتهم العثمانية لممارسة سلطاتها عليهم في تطبيق الشريعة وحفظ أمنهم كخيار أول فإن تعذر فيقبلون بأحد أفراد الأسرة الخديوية المالكة في مصر أو اختيار أي ملك عربي طبقا لشروط توافق عليها وتقبلها القوى العظمي ولكن بواسطة بريطانيا والتي ستتصرف كذلك كدولة انتداب ولكن لا نريد أية دولة أجنبية غيرها .
وقد وقع على الاستعطاف نفر من التجار ووكلاء الشركات الأجنبية التجارية في الحديدة وعدد من الموظفين الإداريين وبعض القضاة, ثم تلا ذلك العديد من الرسائل وكان آخرها سلمت للمقيم السياسي في عدن آنذاك يرغبون في إنشاء مملكة تضم متصرفية الحديدة بحدودها العثمانية التي تمتد من أبي عريش, أي المنطقة التي يسيطر عليها الإدريسي في الشمال, إلى زبيد في الجنوب التابعة للإمام يحيى وتشمل أيضا جبل ريمة وملحقاته وجبل برع بمدنه ونواحيه وعزله , غير أن المطامع البريطانية قد اتضحت للأعيان ويظهر ذلك في رسالة أعيان الحديدة بتاريخ 26 أغسطس 1920والتي حررت بعد اجتماع الأعيان مع باريت المعاون الأول للمقيم السياسي في عدن حيث ناقش باريت مع الأعيان تصميم بريطانيا على تحصيل رسوم جمركية على البضائع بميناء الحديدة بواقع 2% إلى 3% لمواجهة مصروفات التكاليف البريطانية في الحديدة.
لذلك أعاد الأعيان تذكير بريطانيا بوعودها حين احتل الكولونيل استرنج مدينة الحديدة وأصدر منشوره إلى الأهالي بأن بريطانيا ما أقدمت على احتلال الحديدة إلا لحماية أهلها وفرض النظام والقانون وليس مقصدها توسيع سيطرتها على مناطق أخرى وإنزال قوات بريطانية إضافية ولا البقاء إلا لحين صدور قرارات عصبة الأمم.
انتزاع الشريط الساحلي
وكان موقف الإمام يحيى من ذلك هو محاولته إيجاد شرخ في التحالف البريطاني مع الإدريسي ومن ثم التخلي عنه وعندها يتم للإمام القضاء عليه بسهولة إذا ما توقف الدعم البريطاني للإدريسي بالأموال والسلاح والذخائر وكذا فانه سينجح في كبح تمردات وثورات القبائل ضده ويحول دون محاولات بعض القبائل للالتجاء لحماية الإنجليز ويفسد التوجهات البريطانية باحتمال إنشاء دويلات أو ممالك سواء في الحديدة أو تعز.
وتشير إحدى الرسائل التي بعثها الإمام يحيى إلى المقيم السياسي في عدن إلى ابتلاء بريطانيا بخسران سياسي إذا ما واصلت سياستها العسكرية في تهامة فإن توسيع الخلاف سيصل إلى نطاق العالم فيقال (مسألة اليمن وانكلترا) .
وفيما يخص بريطانيا فقد كانت ترى باحتلال مدينة وميناء الحديدة الاستمرار في الضغط على الإمام لتنفيذ بنود الهدنة المفروضة على الدولة العثمانية لإضعافه وانتزاع الاعتراف من الإمام بحق حمايتها للسلاطين والشيوخ واستقرارها في محمية عدن وتجره للاتفاق مع باقي الزعماء العرب لتحقيق مصالحها في المنطقة وكذا التخلص من شوكته والحد من حركته وحصره في الجزء الشمالي من اليمن بعيدا عن السواحل والموانئ وخنقه اقتصاديا وسياسيا وعسكريا وإبقائه كدولة جبلية دون منفذ بحري للاتصال بالعالم الخارجي عن طريق إقامة ممالك ومشيخات ومحميات بتهامة كالوضع التي إقامته في جنوب الوطن لتحول دون وصوله وتحكمه بالمنافذ البحرية .
كذلك هدفت بريطانيا إلى الحيلولة دون سعي القوى العظمي إيطاليا وفرنسا في المنافسة معها على اليمن ببحره وموانئه وبره ومعادنه وتجارته, فكأن السياسة البريطانية ومطامعها الاستعمارية وأساليبها الخبيثة التي مورست قبل مائة عام تعاد وتطبق بالوقت الحاضر من خلال العدوان على اليمن فهل يُعى الدرس وتتجنب الأخطاء؟! .