يـوم عاشوراء في تاريخ العرب
انتصرت النفعية مؤقتا بمقتل الحسين وانتصرت الثورات الشعبية التي تأججت من دم الحسين
عاشوراء أول صفحة تحول في التاريخ العربي
بقلم / الاستاذ عبدالله البردوني
تحت عنوان "يوم عاشوراء في تاريخ العرب" نشرت مجلة الجيش في عددها رقم (118) الصادر في شهر يناير من العام 1981م
مقالا لشاعر اليمن الكبير الاستاذ عبدالله البردوني رحمه الله أشار فيه الى أن يوم عاشوراء في التاريخ العربي يعد اول صفحة تحول, وقال: "الحسين كان معروفا بحيوية الضمير وحقوق الشعب, وكان لابد أن يختار من يلائم حيوية ضميره وصفاء شعبيته, وهؤلاء قلة في كل زمان, وأقل قدرة أمام خبث النفعيين والانتهازيين" ولأهمية هذا المقال وأبعاده ودلالاته التي تحاكي الماضي والحاضر وتتنبأ بالمستقبل "26سبتمبر" تنشر نص المقال:
خاص – "26سبتمبر"
لم يتزايد الاهتمام بحركات الماضي في أي فترة, كما تزايد في منتصف الستينات إلى الثمانيات, وكان هذا التركيز من وجهتين:-
الوجهة الأولى: دينية محضة
الوجهة الثانية: فكرية تتلمس الأساس الديني للفكر والجذور الفكرية للدين, لكي تستشف تأثير العوامل الاقتصادية والاجتماعية للمفكرين ومستقبلي الفكر؟
ولعل المؤلفات التي توخت دراسة الحركات من خلال الأفكار أكثر عناية بالمستقبل, لأن تجلي أبعاد الماضي تشكل دليلا إلى بوابة الغد.
لذلك تبدى رجال جماهيريون لكشف دقائق الحركات الفكرية وأسباب أحداثها لأنهم شاهدوا ثورا ت العصر تحتدب وتنتكس من منتصف هذا القرن إلى الثمانينات، فحالوا أن يبحثوا عن النظائر في التاريخ, لكي يؤسسوا قاعدة النظر إلى المستقبل عن دراية بالخلفية الزمنية والاجتماعية. فأصبحت الأطروحات الفكرية عن الماضي انضج ثمار الأقلام من منتصف الستينات إلى الآن. من أمثال كتاب– "الطيب التزيني"– (مشروع رؤيا جديدة للفكر العربي في العصر الوسيط)، ومن أمثال "الثابت والمحتدل في الفكر العربي" (لأدونيس) ومن أمثال: "التراث والثورة " (لغالي شكري)، ومن أمثال "النزاعات المادية في الفلسفة العربية الاسلامية" "حسين مروة، إلى جانب أمثال: "مذاهب الاسلاميين" "لعبد الرحمن بدوي".
كل هذه الكتب أرادت أن تؤرخ الأفكار من خلال الأحداث مثل كتاب: عبدالرحمن بدوي، فهل تجليه غوامض تلك الأفكار تشكل قاعدة رؤية إلى الغد؟
أن التقدمية علم وان التعمق في معرفة الماضي يبصر بصناعة الغد, رغم اختلاف الأدوات لكل عصر, ورغم اختلاف أدوات عصرنا عن كل العصور.
لقد أدت نكسات الثورات ومحاولة خلق بديلها الى التغلغل في أبعاد الماضي الفكري والسياسي سكناه المنبع الذي تفجرت منه هذه الأمة، لكن هل أزمات اليوم في الثمانينات ممكنة العلاج بأدوات الستينات؟.
لقد اختلفت أنواع الأزمات ونوعية صانعيها, فلم تعد المدافع والطائرات, وإبدال السلطة بسلطة وسيلة وحيدة لمواجهات تغيرات اليوم وما بعده.
ان اختلاف جوهر الأزمات يستدعي نوعية الوسائل, وليس الرجوع إلى افكار الماضي, إلا لمزيد من المعرفة لصنع الوسائل الجديدة لحل الأزمات الأكثر جدة.
فليست الثورات وحدها هي الوسائل الكافية لإبداع الأفضل, بدليل انتكاس ثورات الخمسينات والستينات.
إذن فليس الذي يأتي هو الأفضل ولا هو الأسوأ.. وإنما يحدث الممكن الحدوث سواء كان أهنى أو أشقى، لأن المسألة في الحدوث وفرة إمكانية الحادث, وإمكانية الحدوث غير أفضلية الحادث.
إذا فالذي يحدث سواء كان أهنى أو أشقى, فهو الأكثر إمكانية, والأقدر على التبرج من الامكانية إلى حتمية الفعل, كما تؤكد الأحداث التاريخية من مصرع "الحسين" إلى الآن.
ولعل (الحسين ) يوم عاشر محرم في آخر العهد السفياني, أبرز نقطة تحول في التاريخ العربي، لما توالت عنه من أفكار وما تواشجت به من حركات تحولية، لكن نقطة البدء أدعى إلى الوقوف عندها لمعرفة ما امتد منها.
عندما أستشهد الإمام علي بن ابي طالب لم يأمر أحدا ولا نهى احدا عن البيعة لأحد بنيه, لأن اجماع الصحابة على بيعته لم يحمه من تيار التغيرات السيئة التي قادها تيار(معاوية)، فما الذي حدث عندما انتصر "معاوية " واستشهد (علي ) ؟.
حدث الأسوأ لتوفر إمكاناته, ولم يحدث الأفضل لكثرة عوامله, وقلة إمتلاك أدواته.
كان علي شعبيا وكان معاوية تجاريا.. فأنتصرت التجارة على الشعبية لوفرة امكانياتها.. وكان لا بد أن ينتصر "يزيد " على " الحسين " بفضل التأسيس السفياني.
فما هي امكانية الحسين وماهي امكانية يزيد ؟.
لم يختلف إثنان من ذلك العصر إلى الآن في تفضيل الحسين على يزيد, لكن هل انتصر يزيد أم انتصر الحسين ؟.
وبأي الوسائل تم النصر و الهزيمة ؟.
لقد كانت كل الامكانيات في يد يزيد ظاهريا, وكانت الاريحية والنقاوة والشعبية أغلى كنوز الحسين.
فلماذا انتصر يزيد ؟
لأن الرجال الذين أقتدر بهم معاوية, انتصر بهم يزيد, وهؤلاء هم الأقدر على الانتصار لاستماتتهم في حماية التراث, وفي الاستزادة من الكسب.
وكان رجال معاوية الى جانب يزيد لانهم سيحققون الى جانبه المصالح الدنيوية الدنيئة, التي لا يتوقعون الحصول عليها في ظل الحسين.
إذا فلم ينتصر يزيد, وإنما انتصرت النفعية بكثرة طلابها, واعتيادهم على التحرك والتمسح.
ولو انتصر الحسين لاحتاج لنوع النفعيين الذين احتاج اليهم معاوية ويزيد إذا أراد البقاء على ذروة السلطة, لأن كل وضع ثوري أو غير ثوري مضطر الى الوصوليين والنفعيين, لتفوقهم في القدرة ولاحتياج كل حكم الى النفعيين المقتدرين.
غير أن الحسين كان معروفا بحيوية الضمير وحقوق الشعب, وكان لابد أن يختار من يلائم حيوية ضميره وصفاء شعبيته, وهؤلاء قلة في كل زمان, وأقل قدرة أمام خبث النفعيين والانتهازيين, لأن الأنقياء يمارسون الوسائل المشروعة للغايات المشروعة, ومجرد نظرة الى الذين حول الحسين والذين حول يزيد نعرف نقاوة ثائر (كربلاء ) وانتهازية السفيانيين.
كان حول الحسين سبعون مقاتلا من الشباب, أكثرهم من أهله, وكان حول يزيد من أمثال " عبيد الله بن زياد " و" عباد بن زياد " و" الشمر بن ذي الجوشن ". وكان هناك رجال مزيجا من الفريقين هو " عمر بن سعد بن ابي وقاص " ابن خال رسول الله.
ومن هذا الرجل وحده, عرفنا انقسام اتباع يزيد على نفوسهم, أو الاصطراع بينهم وبين مطامعهم.
فقد مني يزيد عمر بن سعد بتوليه (الري ) بعد النصر على الحسين, فتردد بين النفعية والاريحية.. هل يختار نصرة الحسين, وماذا سيكسب بهذا, أم يختار نصرة يزيد وهو يعرف دسم الغنيمة ؟.. تردد عمر وافصح عن اشتجار نفسه مع نفسه كما في هذا الشعر الضعيف القوي : -
أفكر في أمري وأني لحائر
أفكر في أمري على خطرين
حسين ابن عمي والحوادث جمة
عليه وملك " الري " قرة عيني
أأترك ملك الري والري منيتي
أم ارجع مأثوما بقتل حسين
فلم يكن أحد من القادرين يفضل يزيدا أو يختار الحسين بديلا عنه, لأن يزيدا على سوئه, أصلح للانتهازيين على حين يتطلب النقي الأكثر نقاوة, كمن يغسل قطرات السحاب على لجة البحر المالح.
إذا لقد انتصرت النفعية من يزيد ولم ينتصر يزيد.
ولاقى " الحسين " موتا يحسده عليه كل الأحياء إلى اليوم, لأنه لم يهادن ولم يساوم, ولم يلجأ إلى الفرار على سعة الأرض.
لقد نصحه " عبيدالله بن عباس " أن لا يخرج إلى العراق وأن يلجأ إلى اليمن حيث شيعة أبيه. فلم يقبل أن يتنصل عن البيعة, وعندما بلغ منتصف الطريق لقي " الفرزدق " فسأله : كيف الناس في العراق يا فرزدق ؟
فأجاب : " قلوبهم معك وسيوفهم عليك " وأخبره بقتل رسوله مسلم بن عقيل على يد " عبيدالله بن زياد".
لقد كان في مقدوره أن يرجع من حيث جاء, ولكنه رفض التراجع كمبدأ عظيم يتمسك به العظماء. فهل كان يؤمل الحسين أنه ينتصر ؟.
كان يريد أن يكتب أول صفحة في كتاب التحول بدم البطولة الصامدة, كان يعرف قلة صحبه, وكثرة عدوه, ولكنه لم ير للكثرة وزنا, لأن الرمال أكثر من الورود. لهذا تقدم, إما نصر بشرف, وإما موت يبدع بطولة الشعب. أما يزيد فقد كانت تقاتل عنه انتهازية أكثر من ذباب الصيف وهو وادع في قصره كالغانيات.
أما الحسين فعرى صدره لقبلات الرماح, وعناق السيوف وقاتل بثلاثين رجلا يعادلون آلافا. ولو كان يحب المراوغة لنجا. ولو استعمل حيلة النفعيين لاستمال اليه افواجا منهم بمجرد الوعد بإمارة أو بحفنة نقود كان إن كان يملك, ولكنه فضل أن يحترق لكي يضيئ التاريخ, وأن ينطفئ لكي يتحول أقمارا عاشقة ترفض النعاس.
إذن فمن المنتصر ؟.
انتصرت النفعية مؤقتا بمقتل الحسين, وانتصرت الثورات الشعبية التي تأججت بدم الحسين.
أما يزيد فقد كان وصول رأس الحسين اليه بوابة قبره. فلم يتمتع بالنصر المهزوم إلا شهورا, بل لم يتمتع بعده " بنو أمية " بالملك إلا تسعين عاما هي عمر 16 خليفة. وهي في أصح المعدلات, عمر انسان متوسط العمر. لأن تلك الدولة كانت مبينة على بركان أحمر, وكانت الموجات الوردية الحسينية ترنح قوائمها كل يوم, حينا بالخارجين, حينا بالمختارين, حينا بالزبيريين, حينا بالاشعثيين, وأخيرا بالعاصفة الخرسانية يوم (الزاب ).
إذا فما الذي حدث ؟
حدث الممكن الحدوث, كان الحسين يملك امكانية الاستشهاد, وكان يزيد يملك اقدر الوصوليين في عهد أبيه وعهده. وشتان بين القدرة والعظمة, القدرة قد يمتلكها الأدنياء, والعظمة يمتلكها الشرفاء, وشتان بين قدرة الثعلب الذي يفر من رائحة الموت وبين الفجر الذي يتقد ليعطي الضياء, ثم يغرب لكي يعطي أوفر.
المسألة امكانيات لحدوث الحدث بغض النظر عن نوعه. الممكن يأتي ولو سيئا وقد لا يأتي المنتظر وأن كان جيدا, وأن كثر عاشقوه, مالم تتعد امكانياته الفاعلة. وليس الذي يأتي خيراً من الذي ذهب بالضرورة فلم تكن ( ثورة أبي مسلم ) إلا نقل الطغيان من قصر إلى قصر. فليست الجدة كل المنشود, نوع الجديد هو كل المنشود قد نقول عن الماضي أنها ثورات بيوت أو فئات. فما الفرق بينها وبين ثوراتنا المعاصرة.؟
إن الشعوب إلى الآن لم تثر. وإنما ثارت عنها فئات, وعندما تتحول هذه الثورات من مثالية إلى الحلم إلى الواقع المادي. تكتشف الجماهير خيبتها, إما (بنمطية الوضع ) أو بيروقراطيته.
وهنا يحدث الممكن الحدوث, أما ثورة الشعب أو حركة باسمه تسمي نفسها ( تصحيحا ) أو " ثورة " أو أي اسم من الاسامي الكثيرة التي تغدقها الإذاعات والصحف.
إذا فالشعوب لم تثر إلى الآن. لأن حركاتها كانت باسمها ونيابة عنها. وعندما تتحول الحركة. وعندما تتحول الحركة من تنظيم إلى نظام, يكون الانتهازيون والمتمسحون أذيال العهد الجديد, كما كانوا أذيال العهد القديم. لأن الرؤوس مفتقرة إلى الذيلية. حتى لو كانت ذيلية رؤوس أخرى.
هل معنى هذا أن الشعوب فقيرة التجربة ؟
عندما تؤمل وتعجز عن المأمول, ترى من يصبح عنها صورة أهوائها, وعندما تصبح هذه الصورة إضافية, وتظل الشعوب دائما شهيدة كربلاء. رأسا أعلى, تحتاج إلى الأعناق إلى الأعناق الوصولية كرقبات ولكن بدون الحسين, وتظل كل الأوضاع يزيدية لاضطرارها الى احفاد الشمر وأولاد ابن زياد. قد نتساءل أين سر التطور ؟ إنه في قبضة القادرين دائما, في قبضة المؤسسات العليا, وتحت أيدي الإدارات الفنية. ثم أن التطور في الآلات وليس في صناع الآلات ومستخدميها. لأن صانعيها يتحولون إلى آلة الآلة, وهي من صنع مؤسسات تحاول أن تملك بالأدوات وبالناس ولا تحكم للناس وبالناس إلا ريثما تتحول الأحلام إلى واقع يحلم بواقع منشود.
ولعل السنوات الآتية سوف ترينا اختلاف الادوات لاختلاف الأزمات, لأن الأيام الآتية أيام الشعوب, لإفلاس كل المسيرين عن التسيير, ولتطلع الشعوب إلى الفردوس الأرضي.
لقد حدثت مئات الحركات وتعاقبت السلطات وكلها نفسها سيدة العالم, كما ترى الآخرين أنصاف ناس. لم تحقق آمال الشعوب.. كانت (النازية ) ترى فنفخت المانيا بالغرور ثم اكتشفت فراغها واكتشفت أنها كانت مخدوعة, ولكن بعد أن ذاقت المرارات وذاق غيرها مراراتها. مثلها "الفاشية " و " الليبرالية " و" الامبريالية".
فأمريكا التي تسمت (بالعالم الجديد ) في مطلع القرن التاسع عشر أصحبت ( العقب الحديدية ).
الثورة الفرنسية التي تبنت حرية الانسان, انجبت حرية "الاحتكار ". ثورات العالم الثالث أكلت ثوراها واستخلفت وكلاء الاستعمار.
أصبح الجيش الفرنسي في آخر السبعينات وأول الثمانينات أمل بعض السلطات في البقاء بعد تحررها منه بسنين.
ثوراتنا التي اشتعلت وتصححت ثم تصححت قتلتها العمليات الجراحية حتى لا تحس وجعا. فهل حدث الأفضل أو حدث الممكن ؟
لقد تراكم الركام, ولكن من استغل انفجاره ؟
الجواب : ركام أكثر دهاء, عرف كيف يغلق ابواب الريح وكيف يعطي المهبات بقية " الفتات " حتى لا تعرف أن لها قدرة الهبوب ومع هذا لم تنم الشعوب, وانما استيقظت أكثر, فاستجدت أزمات الأسعار والسكن والزواج والمواصلات, وأصبحت ثورة " الذات على الذات " كنوع آخر من الفتات. لأن الحدث هو الممكن وليس المنشود, أو الذي كان منشودا فاستحال الى الممكن لأن يزيدا متعدد الأشكال والأطوار, ولأن الحسين طراز واحد, ذو وجه واحد, لا يملك أن يحترق, لكي يضيئ, ليبقى الغد الأهنى عنقاء جديدة صعبة الاحتراق. وان كانت غير مستحيلة الاحتراق.
إن يوم عاشور في التاريخ العربي, أول صفحة تحول, لكن هل التحول للتحول ؟. انه وسيلة مشدودة بغاية, وعندما تتبرج الغاية تستحيل وسيلة وتتلامح غاية أبعد, لأنه لا يحدث المنشود, وانما الممكن في صورة المنشود, لكي تنشد النفوس ذلك المرجو الذي استشهد في سبيله آلاف الحسين في كل شارع وفي كل موقع.
صحيح أن ازمات اليوم اعقد وتحتاج إلى وسائل أجد, ولكن هل تستغني عن الإنسان كحسين جديد ؟
إن الإنسان هو سيد الوسائل, وعندما يحدث الممكن يصبح عبدا لها. لأن الذي حدث. كان في رصد الانتهازيين قبل حدوثه. لكي يصبحوا قابلة له, وكأنهم لم يكونوا ام الذي قبله. وقد دلت على هذا حركتنا المعاصرة من أول خطواتها. كانت أفكارنا في الخمسينات أكثر اقتحاما منها اليوم.
فلماذا لا تطرق في نسق تطورها ؟!!.
هكذا يبدو في أكثر من مكان. كان " رفاعة الطهطاوي في مطلع القرن الـ 19 أكثر معاصرة من الشيخ " محمد عبده في الفكر والفن, تتصاعد من ضفاف النيل على امتداد عبده " في أول العشرينات. وكانت صيحات "الجديد " الخمسينات والستينات فمن يفكر هناك اليوم كصاحب "الديموقراطية أبدا " أو "هذا الطوفان ". أو كصاحب " بئر السلم أو " الوفد " ؟!.
لقد ظل الفكر العربي يتقدم ثم ينحسر. كان في ركد إلى منتصف الخمسينات.. من هناك استعاد الاربعينات حتى أول الخمسينات عنيف التوهج, ثم بريقه بدون حريق, ثم خمد بريقه من منتصف الستينات لكي يتقد من بعد " حزيران " إلى اكتوبر 1973م. ثم تراجع عقودا إلى الخلف, تجاوز عصر الثورات إلى قبلها. فلماذا يضطرد سيره ؟.
لأن الأبراج العالية عرفت كيف تلهى, وكيف تغدق, وكيف تسكت حتى أصبحت العلاقة بين المثقفين والسلطات اما علاقة سيد بأقنان أو علاقة عداء تنتظر الانفراج لمهادنة أو هجرة. أو اعطاء هوامش الحرية بديلا عن الحرية. أو إباحة الحماس الثوري بديلا عن الثورة.
وبهذا ظل المنشود يتغيب وظل الممكن يتحقق للرضى بقبوله أو لانتظار سواه مع إيثار العافية.
إن يوم عاشور كعنوان " ثورة عربية " أثار تقفي صفحات كتاب التحول من الينبوع إلى المصب, لكي نجد الجفاف في آخر الوادي, لكثرة نعومة الضفاف ووفرة اخضرارها. فالثمانيات ترى الضفاف ولا تلمح الوادي, لأنه زرع في رمل أو أن شهوة الرمال كانت أعنف من قطرات الطل.
لقد شمل يوم عاشور عدة خطوات :-
ثورات السلطة في حلقة مفرغة
تحول الأحداث من طقس الى طقس ومن مجرى إلى أكثر من حفرة. فتأسن أكثر التيار وأمتد أقله. وعندما واجهنا العصر تعاملنا مع الدبابة بروح سائق الجمل وركبنا الطائرة بروح سادة الرواحل. فكنا ماضويين في زحمة العصر الآلي.
فكما ثار الحسين عن المضطهدين, ثارت الدبابات عن الشعوب أو بعض التنظيمات عن كل الناس, وبامتلاكها المصاريف والسجون تصبح هي الواقع الثوري.
إذا فالفئوية هي على ثوريتها الآنية ضد ثورات الشعوب الدائمة . فإلى الآن لم تثر الشعوب. وإذا ثارت فلم تتواصل ثورتها, لأن الفئوية بالمرصاد, وعندما يستحيل الفئويون من شبه ثوار إلى حاكمين. تصير الأقليات إلى منتفعة, والأغلبية ملغية من الحساب فلم تكن كربلاء شهرا واحدا وإنما هي كل الشهور القمرية وستظل حتى تضيئ كل الأقمار من كل وجوه الناس.
هناك ينتصر الناشد بتحقيق المنشود, ويضطر السير من وسيلة إلى غاية, ومن غاية إلى غايات عن دراية, بالطريق وعن استبصار بالغد من ذاكرة الأمس ومن تحديق اليوم إلى بداية رحيله الخلاق.