بوح اليراع: سِرُّ الإسراء مِنَ القبلةِ إلى المَسْرى
معجزة الإسراء التي اختُصَّ بها سيدنا محمد -صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرا- دونًا عن سائر الأنبياء تعدُّ توكيدًا من رب العالمين على اصطفائه
-باعتباره النبيَّ الخاتم والمبعوثَ بالكتابِ الأتمّ- بالسيادة على كافة الأنبياء المرسلين، وحسبنا استدلالاً على ما حباه الله -سبحانه- من نعمة التفضيل عليهم -صلوات ربي وسلامه عليهم- أنه -عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم- قد صلى بهم إماما، فقد ورد في صحيح مسلم عن أبي هريرة -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم- أنه قال: "وقدْ رَأَيْتُنِي في جَماعَةٍ مِنَ الأنْبِياءِ، فإذا مُوسَى قائِمٌ يُصَلِّي، فإذا رَجُلٌ ضَرْبٌ، جَعْدٌ كَأنَّهُ مِن رِجالِ شَنُوءَةَ، وإذا عِيسَى ابنُ مَرْيَمَ عليه السَّلامُ قائِمٌ يُصَلِّي، أقْرَبُ النَّاسِ به شَبَهًا عُرْوَةُ بنُ مَسْعُودٍ الثَّقَفِيُّ، وإذا إبْراهِيمُ عليه السَّلامُ قائِمٌ يُصَلِّي، أشْبَهُ النَّاسِ به صاحِبُكُمْ، يَعْنِي نَفْسَهُ، فَحانَتِ الصَّلاةُ فأمَمْتُهُمْ، فَلَمَّا فَرَغْتُ مِنَ الصَّلاةِ قالَ قائِلٌ: يا مُحَمَّدُ، هذا مالِكٌ صاحِبُ النَّارِ، فَسَلِّمْ عليه، فالْتَفَتُّ إلَيْهِ، فَبَدَأَنِي بالسَّلامِ".
التسريَة عن خير البريَّة
من الثابت تأريخيَّا أن سيدنا محمد -صلى الله عليه وآله وسلم- كان يستعين في تجاوز إيذاء مجتمع الكفار الذي بلغ حالة غير مسبوقة من الحصار بزوجته الأولى أم المؤمنين "خديجة بيت خويلد" -رضي الله عنها- التي كانت تمثل السند المالي الذي يمده بالأموال التي تعينه على سد رمق أبناء مجتمعه المحاصر وتثبيتهم على تحمل ما باتوا يعانونه -بفعل قسوة الحصار- من سوء الأحوال، وبوجاهة عمه "أبي طالب" الذي كان له بعد وفاة جده "عبدالمطلب" خير أب، إذ ظل يمثل له -حتى بعد أن بعثته بالحق نبيّا- حضنًا أبويًّا، ولدعوته -بالرغم من بقائه على شركه وعدم إيمانه بها- سندًا سياسيًّا قويًّا، فقد سخَّر نفوذه لدرء خطر مجتمع الكفر عنه وللحيلولة دون النيل منه، فقد قال -صلى الله عليه وآله وسلم- موضحًا ذلك الجانب: "ما نالت مني قريش شيئًا أكرهه حتى مات أبو طالب".
بيد أنه -صلوات ربي وسلامه عليه- قد فُجع بهذين السندين اللذين كان يعتمد عليهما -بعد الله- في التغلب على الشدائد في عام واحد، فقد توفي كل من زوجه "خديجة" وعمه "أبي طالب" في عام واحد بل في وقت متقارب، إذ لم يكد يستفيق -صلى الله عليه وآله وسلم- من فجيعته برحيل الزوجة التي كانت تغمره بما لا يقل عن حنان الأم حتى يفجع برحيل العم المتصدي بنفوذه وجاهه لكل سهام الشرك المصوبة تجاهه، فلم يسعه -عليه أفضل الصلاة والسلام- إلا أن سمَّى ذلك العام الذي تسبب له بما لا يحتمل من الأحزان والآلام (عام الحُزْن).
وفي غمرة هذه الأحزان التي امتحن الله بها قلبه للإيمان، امتنَّ عليه القوي المتين بما لم يمتن به على أحد من العالمين ألا وهي حادثة الإسراء التي لم تتكرر في تأريخ الورى، فقد كانت مكافأةً له من العزيز الجليل على تحليه بالصبر الجميل واحتماله كل عبء ثقيل في سبيل تبليغ ما تنزل على قلبه من محكم التنزيل هذا من ناحية، وقد جاءت هذه النعمة لتسري عنه وتجلي عن قلبه ما كان قد تغشاه -نتيجة الأحزان المُتراكمة والخطوب المدلهمة- من غُمَّة من ناحية ثانية، كما أنها قد قوَّت حُجته وعززت مواقفه أمام القوى الشركية المخالفة.
تأبيد الصلات بين المقدسات
لم يكن الإسراء بالحبيب المصطفى من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى من قبيل الصدفة، فحاشا ثم حاشا أقدار ومشيئات المولى -جل وعلا- أن تكون مجرد (خبط عشواء)، بل إن لله -تعالى- في تشريف هذين المكانين المباركين وهذين المقدسين الدينيين رسالة خالدة إلى الصالحين من عباده يؤكد لهم -جل جلاله- ما بين البيتين من وثيق الصلة التي تأكدت -عقب حدوث هذه المعجزة المذهلة- بصيرورة كلا المسجدين للمسلمين قبلة، وما كان الله -تعالى- ليأمر عباده المسلمين الموحدين بالتوجه في صلاتهم إلى المسجد الأقصى لما يقرُب من ثلاثة أعوام، ثم يأمرهم بتحويل قبلتهم إلى المسجد الحرام، إلا ليؤكد لأمة الإسلام ما بين المسجدين المباركين من شديد الالتحام، وليؤكد على ما يُفترض أن تولي أمة الإسلام كلا المسجدين من التقديس وعلى ضرورة اضطلاعها -بعيدًا عن أيِّ تسييس- بمهمة حمايتهما مما قد يتعرضان له على أيدي عَبَدَةِ إبليس من تدنيس.
وإنَّ ما يتعرَّض له المسجد الأقصى هذه الأيام من تدنيسٍ على أيدي الصهاينة اللئام لهُ مُوجبٌ على كل من يتجه بصلاته إلى المسجد الحرام -وفي مقدمتهم الحكام- إعلان النفير العام واضطلاع كل شخص من أمة الإسلام بما يتناسب ووضعه من ألوان الجهاد وبما يمكنه من الإسهام في تحرير هذا المقدس الإسلامي الهام، ولو تحلى أتباع خير الأنام -عليه أفضل الصلاة والسلام- بما يقتضيه المقام من إقدام، لأمكنهم حسم معتركهم وكسر شوكة أعدائهم وتحرير أرضهم وتطهير مقدسهم من دنسهم في غضون أيام، (وسبحان من لهُ الدوام).