حركة الواقع السياسي ..الأبعاد والمنطلقات
كان من الملحوظ في سنوات الاضطراب التي أعقبت موجة الربيع العربي أو تلك التي كانت قبل موجة الربيع العربي - أي منذ حركة المطالب الجنوبية عام 2007م -
نشاط الملحقيات الثقافية في سفارات المملكة أو دولة الإمارات, وكان هناك نشاط - لا أظنه كان سياسياً - لسفير دولة الكويت , فسفير دولة الكويت كان يتفاعل مع المشهد الثقافي اليمني من باب الولع والشغف بالثقافة والأدب ليس أكثر من ذلك , أما سفارة المملكة فقد نشطت نشاطاً ملحوظاً في الوسط الأكاديمي اليمني واستقطبت عددا كبيرا تقول الإحصاءات أن عددهم يصل إلى مئتين وستين مدرسا أكاديمياً عملوا في جنوب المملكة أي في المخلاف السليماني فقط , إضافة إلى عدد كبير من العاملين في الطب , كما كان للمملكة نشاط تفاعلي في الوسط الثقافي اليمني من حيث الأنشطة التفاعلية والتكريمية , ومن حيث التوظيف والترغيب وتصحيح الصورة النمطية عن السلفية من خلال اللقاءات والحوارات التي كانت تديرها الملحقية الثقافية السعودية وقد حضرت بعضا منها يومئذ .
اليوم تتضح الصورة بشكل جلي لا يقبل التأويل أن المملكة كانت تنفذ استراتيجية واضحة المعالم والأبعاد ضد اليمن وأهله منذ عام 2007م وتوالت بها الأحداث لتصل إلى خيار العدوان والتدمير عام 2015م .
كان هدف المملكة أن تفرغ اليمن من العقول ومن كتاب الرأي , أو تقوم بحالة تخدير للعقول التي تعجز عن توظيفها , وقد عملت في الاتجاهات كلها , وتلك منهجية وسلوك دأبت عليه المملكة منذ عقد الستينيات من القرن العشرين وعقد السبعينيات حتى تصل إلى مرحلة تهجين القرار اليمني – وقد تحدث عن ذلك البردوني - وقد نجحت في ذلك الزمان , وها هي اليوم تعيد الكرة من جديد فهل ستنجح اليوم كما نجحت بالأمس ؟
الفارق بين اليوم والأمس , أن اليوم لدى المملكة جماعات مجندة تمولها وتحارب باسمها وتقف في حدود اليمن والسعودية دفاعاً عن المملكة , أما بالأمس فقد كانت تمول حربا أهلية نخشاها على نفسها أو تدفع الحركة الناصرية بها خوف أن يصل التغيير إلى ديارها فتعجز عن مقارعته , فلم يكن لها من خيار سوى تمويل الحرب الأهلية اليمنية ,والوقوف مع طرف يتناقض معها فكراً ومذهباً ضد آخر تخشاه على سلطانها , فكانت حربها وتداخلها تداخلا اضطراريا , أما اليوم فقد مارست لعبتها وحقارتها عن طريق رئيس توافقي فرضته هي في مبادرتها بتوجيه من بريطانيا "وتجدر الإشارة هنا إلى أن بريطانيا هي حاكم الظل للمملكة منذ نشأتها , وعبد العزيز كان موظفا يتقاضى راتبا شهريا من بريطانيا قدره خمسة ألف جنيه , وهادي عميل لبريطانيا منذ أن وقف أمام المحكمة بتهمة التخابر في سبعينيات القرن العشرين , وما تزال بريطانيا تطل بوجهها متى كانت الضرورة تقتضي ذلك , فقد كان اشتغال السعودية على المهرة اشتغالا مكثفا خلال سوالف الأيام , وفجأة أطلت العجوز الشمطاء البريطانية بقرونها من المهرة معلنة تواجدها العسكري هناك وهو الأمر الذي يؤكد ما نذهب إليه من قول " بالمعنى القريب السعودية حاولت أن تمارس ذات السياسة في الماضي بحيث تفرغ اليمن من العقول ,وتسهل عليها مهمة تدمير المفاهيم , وتفكيك الهوية الكلية والجزئية للبلد , وتجد من بين صفوف المثقفين والأكاديميين بيئة فاعلة تناصرها, أو تضمن حيادها بعد أن تخفت الأصوات , أو توظف من بني جلدتنا من يبرر أفعالها وحماقاتها وجنونها في اليمن , وقد رأينا مثل ذلك خلال سنوات العدوان .
اليوم وفي صمت مريب وبالتزامن مع قيام أمريكا وبريطانيا باستقبال مئات الآلاف من الأفغان الذين خافوا من طالبان وكانوا يعملون مع بريطانيا وأمريكا فترة احتلال أفغانستان تقوم المملكة بالاستغناء عن عملائها الحقيقين الواضحين في الصف الأول للعمالة , إذ تواترت الأنباء عن تسلم الكثير من السياسيين والناشطين اليمنيين إنذارات باسم اللجنة الخاصة بمغادرة الرياض , كما تتواتر الأنباء عن حملة تطهير وظيفي تقوم بها سلطات المملكة في عسير وما جاورها مما كان يسمى قديما بالخلاف السليماني , فكل العقود مع الأكاديميين والأطباء العاملين في تلك المناطق قد تم إلغاؤها بقرار بين ليلة وضحاها ,وأصبح عملاء الظل في العراء يبحثون عن ملاذ فلا يجدونه , وترتفع الأصوات في مناشدات لهادي وهم يصمون آذانهم حين لا يدركون أن هادي ليس بيده من الأمر ما يستطيع أن يدفع به عنهم ,فهو نفسه مهدد بالطرد بعد أمد قصير , فالحال الذي وصل إليه الأمريكان مع الأفغان دال على تبدل في الموازين وفي الرؤية وفي الأسلوب والمنهج فنحن قادمون على مرحلة جديدة لا تشبه كثيرا ما قد كان، لكن ملامحها دالة على نفسها عند قوم يعقلون .
حالة التزامن بين طرد عملاء السعودية من السعودية وبين استقبال الغرب للعملاء الأفغان الذين عملوا معه زمن احتلاله أفغانستان ليست عفوية ولن تكون , فالغرب يحاول أن يظهر العرب والمسلمين كأمة متوحشة هي ضد التمدن ,وضد الإنسانية ويحاول أن يظهر تفوقا أخلاقيا من خلال حالة التفاعل الإيجابي مع القضايا , وهو قد يروج لمثل ذلك إعلاميا تاركا للرأي العام العالمي حرية التمييز والتفكير .
الكثير من العملاء التقط رموز الواقع وإشاراته التي يبعثها اليوم لهم فكانت تغريداتهم على منصة التواصل الاجتماعي " تويتر" دالة على ذلك , لكن لم يعد بيدهم من الأمر ما يدفعون به عن أنفسهم , وليس بمقدورهم أن يعملوا شيئا فقد فاتهم قطار الوقت وتجاوزتهم الضرورة السياسية , فحركة المصالح السياسية أضحت في حال تبدل وتغير , وعودة طالبان إلى أفغانستان ذات تواشج وظيفي في إدارة المنطقة فهي تشكل قلقا لإيران , وقد تعلن جهادا لها في الصين انتصارا للمسلمين هناك باعتبارهم أقليات مضطهدة , وقد تنتصر لكشمير , وبذلك قد تعمل على إحداث حركة توازن للنظام الدولي في المنطقة , وتصبح حاجة النظام الدولي - بعد التمكن من السيطرة على المهرة وجزيرة ميون وسقطرى وباب المندب – غير ضرورية , وقد دلت الأيام القليلة مع بوادر الأيام الأولى لحركة طالبان في التربع على سلطة أفغانستان على ذلك .
صراع النظام الدولي والدول الصناعية الكبرى مع الصين أصبح صراعا مكثفا ومحموما ولذلك فعودة طالبان إلى أفغانستان لم تكن كما أعلن البيت الأبيض ولا كما أعلنت بريطانيا بل كان وفق استراتيجية قديمة تبنتها في صراعها مع النظام الاشتراكي والسوفييت في عقد الثمانينيات وهي إحياء الأصوليات الدينية للقيام بوظائف التمكين للرأسمالية , وهي اليوم تنتهج ذات النهج , تريد أن تضرب إيران والروس والهند والصين بذات العصى القديمة .. تلك الاستراتيجية كما أعتقد لم تعد ذات جدوى وقد تجاوزها منطق الزمن ولا أرى النظام الدولي الجديد إلا يقدم على عملية انتحار من ذات المكان الذي انتحر منه النظام الاشتراكي ولعل قابل أيامنا قد يفصح عن ذلك , وما ذلك على الله ببعيد فكل المؤشرات التي يبعثها الواقع اليوم لم تعد كما يتخيلها النظام الرأسمالي الذي مارس تضليلا على العالم فوقع في شراك تضليله فكان تعاطيه مع الواقع قفزا غير محمود العواقب له .
لقد شاخ النظام الرأسمالي الغربي ولا أرى إلا بزوغا متناميا للتنين الصيني ومحور الشرق , ولعل أمريكا اليوم تحفر لنظامها قبرا بدأ معوله من اليمن وها هو يمتد إلى أفغانستان وغدا يصل إلى مداه الذي يريده الله , فقد كثر ظلم أمريكا للبشر , فقتلت وشردت وهجرت وجوعت وعاثت في الأرض فسادا ومثل ذلك من موجبات غضب السماء .
اليوم نحن على مشارف زمن جديد التفاعل معه يتطلب نشاطا ذهنيا ووعيا واستراتيجيات وفهما للأبعاد والآفاق وتحركا ثقافيا وإعلاميا وسياسيا حتى نتمكن من السيطرة على مقاليده.