التأثير والتأثر.. والمستوى الحضاري المعاصر
منذ عام 2011م أصبحت اليمن كالقصعة التي يتداعى عليها أكلتها، بل أصبحت مضماراً - كما يتضح اليوم جلياً في الجنوب- لتصفية الحسابات بين الخصوم،
فالصراع الذي يلبس العباءة الخليجية أصبح يفصح عن نفسه في المئزر اليمني، فقطر ترى في الاخوان يداً تدافع عنها، والإمارات اشتغلت على مسار الطغمة، والسعودية تبحث عن نفسها في ثوب السلفي، وأمام مثل ذلك الاشتغال تغيب اليمن كوطن، وكمعنى، وكحضارة، وكتاريخ، وكمشروع، لتبدو لكل متأمل حصيف حالة مضمارية بأفق من الفراغ القاتل.
أي أن الذي يحدث باليمن لا يعدو عن كونه حالة من حالات التيه التي تصيب الأمم في مراحل تاريخية مفصلية إما عقاباً لتصويب حالة انحرافية، أو تهيئة لمرحلة مختلفة في تفاعلها الجيوسياسي والديمغرافي، ويبدو لي من خلال القراءة التأملية لمجريات الأحداث التي واكبتُ احداثها -كتابةً وتأملاً- منذ تفجرها في 2011م , أن اليمن تتعرض لحالة فرز وتمايز وتدافع دفعاً لفساد قد حدث وبغية التهيئة لها لاستعادة دورها الحضاري والتاريخي، وذلك ما يبدو لي من بين غيوم الأزمة ودخان العدوان وحالات الابتلاء بالفقر والجوع والخوف ونقص الاموال والثمرات، وتلك الرموز تحمل بين وجعها البشرى - وفق فطرة الله وقانونه الذي وضعه في كتابه لعل الناس يرجعون اليه اذا ابتعدوا عن مقاصد الحق والخير والعدل، ومالوا بفطرتهم الى الطاغوت- تباشير لقادم يتشكل .
ومع اكتمال دورة الزمن السباعية تكون اليمن قد تجاوزت مرحلة لتبدأ مرحلة جديدة، هذه المرحلة ستكون ذات تغاير وفصل، تغاير عن الماضي القريب الذي تاهت فيه اليمن، وفصل بين زمنين، زمن أمعن في الانحراف التاريخي واستغرق نفسه فيه، وزمن سوف يعمل على تصحيح الانحراف الذي حدث في سقيفة بني ساعدة، ليعيد ترتيب النسق الحضاري والثقافي والتاريخي الى المجرى الطبيعي الذي دلت إشاراته الأولى ورموزه على تعاضده وتكامله ومن ثم واحديته، فالمشروع الاسلامي بكل قيمه ومبادئه الحضارية والإنسانية والحقوقية لم تكن قريش حاملاً حقيقياً له بل كانت بيئة قروية عشائرية تقوم على قيم العصبية ولذلك شكلت بيئة طاردة لهذا المشروع وكان الانتقال من القروية الى المدنية يحمل دلالات كبيرة في الفكر الاجتماعي لم ينتبه إليه أحد.
كما أن تمايز التنزيل بين المكي/القروي والمدني يحمل دلالات ثقافية وعقدية لم تُقرأ في سياقها الحقيقي، ومن هنا يمكن أن يُقال إن المشروع الاسلامي الذي جاء لإنقاذ البشرية من دروب الضلال الى أنوار الهدى وحمله الرسول الأكرم محمد «صلى الله عليه وآله وسلم» كان مشروعاً مدنياً لا يمكنه التناغم إلا مع القيم الحضارية والمدنية التي كانت تمتد في حمير ومن حمير في الأوس والخزرج «الأنصار» فالتلازم بين الاسلام كمشروع يحمل الخيرية للبشرية، وبين حمير هو تلازم عضوي حدث في زمن بزوع الاسلام فأبهر العالم المحيط يومذاك، وحين حدث الانحراف من خلال التأسيس له في سقيفة بني ساعدة ومحاولة قريش استعادة دورها الاقتصادي، ومن ثم استعادة المجد والسيادة.
كما بدا مكتملاً في زمن الخليفة عثمان بن عفان ليبلغ أوج كماله بخروج الإمام علي بن ابي طالب من المعادلة الوجودية السياسية لتبدأ مرحلة التضليل وصياغة النصوص وتعزيز عوامل الصراع الوجودي وفق منظومة نصية قيمية تماهت قريش مع اليهود فيها لتبدع واقعاً متماهياً مع ماضيها وهو ما اصطلح عليه بالاسرائيليات فيما بعد، ثم كانت الفرق والصراعات كما يتحدث التاريخ، في ظل غياب حقيقي للحامل الحقيقي للمشروع الاسلامي.
وأمام كل تموجات اللحظة تبدو الحاجة الى عودة الحلقة المفقودة الى مكانها الطبيعي في المسار من ضرورات اللحظة التاريخية الفاصلة، وتلك الحلقة تحتاج وعياً بها، لا قفزاً على حقيقتها وفق طاقات انفعالية مدمرة.
وحتى نعي المستوى الحضاري الجديد الذي وصل اليه البشر لابد أن نسلم بالحقيقة الجوهرية الثابتة التي ترى أن الفكرة الدينية فكرة ثابتة لا يمكنها التغير في بعديها العقائدي والاخلاقي بقطعية النصوص , ولكن المشروع الاجتماعي والسياسي والاقتصادي قابل للتحول والتبدل ويمكن ابتكاره وابداعه من تفاصيل الزمن الحضاري ولذلك فقضيتنا لا تنحصر في موضوع الدعوة وفرض ثقافتنا وعقائدنا على الآخر فقد حصرها النص الديني بالبلاغ والبلاغ قابل للتحقق من خلال المشروع الاجتماعي والسياسي وشواهد التاريخ دالة على ذلك .
إذن تشذيب التراث من كل شوائبه التي فرضتها الضرورات التاريخية والسياسية هو البداية المثلى لصناعة مشروعنا السياسي الذي يتفاعل مع العالم من حولنا ليكون مؤثرا فيه لا متأثرا به , والآخر يخاف من المشروع السياسي المتجدد ولذلك سعى الى اغتيال رموز النقد والتنوير واستمال العلماء اليه ومن رفض نالته يد الغدر ولو جال البصر في الزمن المتأخر منذ عقد الثمانينات في القرن المنصرم لرأينا هذه السياسة بشكل جلي وواضح , لكنه لا يخاف الفكرة الدينية بل تعامل معها بقدر من التفكيك والتشويه وشواهد ذلك كثيرة بدءا من أفغانستان ولا نقول انتهاء بداعش فالقائمة ليست محددة بزمن .
لقد كان العرب - كما هو ملاحظ - على مسافة كافية من البعد عن دوائر التأثير والصنع في تحديد مسارات النظام العالمي الذي يفرض عليهم اليوم هيمنته, ويوجه مسار الاحداث الى الجهات التي يتغيا دون مراعاة للعرب ولا لقيمتهم ولا لمصالحهم , الى درجة أن كيسنجر أطلق تصريحات تقول لابد من السيطرة على مصادر الطاقة لتسهل هيمنتنا على الحكومات , والتحكم بالغذاء لتسهل الهيمنة على الشعوب , وقبل ذلك لابد أن نقتل أكبر عدد من العرب , وهذا لو أمعنا النظر هو الذي يحدث اليوم .
ولذلك يرى الكثير من المفكرين أن الهند نجحت في التعالي على الأجانب لا عبر هدايتهم الى الديانة أو الثقافة الهنديتين بل عن طريق التعامل مع تطلعاتهم بقدر رفيع من الاتزان ورباطة الجأش , فقد دأبت على التعامل مع المستويات الحضارية الجديدة وأذابتها في بوتقة الحياة الهندية دون خوف , فعظمة الهند تكمن في قدرتها على التحدي ضد أي تأثير غريب ولذلك فرضت تأثيرها وشروطها على النظام العالمي الجديد , وهي تجربة إنسانية فريدة يمكن الاستفادة منها , وإن كان لدينا أسس هذا النوع من التعايش تجسد ت بذرته في "وثيقة المدينة " لكن الفكر العربي ظل محكوما بالنص, ولذلك تقيدت حركة تطور المجتمعات .
ونحن نرى أن فقه التمدن في الإسلام , وفكرة الحريات العقائدية , وفكرة التدافع بين الجماعات سياقات ذات تجذر وعمق في الفكر الثوري الإسلامي الذي قاد مرحلة انتقال من أصعب المراحل ليبدع واقعا اجتماعيا وثقافيا جديدا في عهد الرسول الأكرم عليه الصلاة والسلام ويوم السقيفة كان سببا مباشرا في كل التنظيرات والتخريجات الشرعية لنظرية الحكم التي تستند اليها الجماعات التي تشوه في الاسلام وجل تلك المدخلات الثقافية لا أصل لها في جوهر الإسلام بل فرضتها ضرورة العصبيات وروح الاستبداد في الذات القروية , تلك الروح التي تستند الى مبرر فساد الخروج واستقرار الدولة هي التي عززت هذه الروح الى درجة الاعتقاد بجوهريتها في الدين وأصوله وثوابته ومنطلقاته النظرية .
لقد أصبحنا أمام واقع حضاري جديد , ودلت التفاعلات أن الفكر الاسلامي بحاجة الى حركة تدافع لتحديد المفاهيم الحضارية الجديدة والمستجدة عليه ليكون أكثر ديناميكية مع واقعه , فالتمدن ما يزال يأخذ بعدا نظريا جامدا في تصورات البعض , والتدافع ما يزال يأخذ بعدا نظريا متوحشا عند الكثير , والحريات تأخذ بعدا نظريا الغائيا الى حد الفناء عند البعض , والوقوف أمام هذه المصطلحات لتحديد مفاهيمها هو البداية الصحيحة للولوج الى العصر للتأثير فيه لا التأثر به .