البحر الأحمر ملتقى الأطماع الاستعمارية: (96)
إذا كان القرن ( 16م ) بداية الانقلاب التجاري فإن القرن (19) كان بداية "الانقلاب الصناعي " وكما كان القرن الأول بداية تغييرات اقتصادية وسياسية في حوض البحر الأحمر
فإن الانقلاب الثاني كان أشد تغييراً وأعمق أثراً ليس في دول حوض البحر الأحمر فقط بل وفي مصير العالم كله وخاصة بعد أن تسارعت خطواته أي الانقلاب الصناعي منذ بداية القرن العشرين فقد تحول هذا الحوض من "بحيرة محمية " إلى البحيرة المستعمرة بعد أن سقطت أغلب أجزائه تحت سيطرة أوربية كبرى فأصبح الممر بالتالي في خدمة أصحاب تلك المستعمرات الذين غنموا في الواقع دون سكانه جميع الفوائد الاقتصادية المترتبة على ثوابته ويعني هذا بالتالي بأن دخول أجسام غريبة إلى جسد الحوض بالمفهوم الذي سبق عرضه قد جعل هذه الأجسام تستأثر بكل خيرات البحر وفوائده ومما زاد من ضعف الحوض اقتصادياً وسياسياً وقد ترتب على الضائقة الاقتصادية والاضطراب السياسي أن أقبلت بعض القوى الاجتماعية القبلية على بيع أراضيها وسواحلها للقوى الخارجية بعد أن استنفذت مواردها المحلية المحدودة في حروب داخلية ولم تنج الحبشة نفسها من هذه الاضطرابات والانقسامات فقد أنقسم الأحباش بين عدد من الرؤوس وكان كل رأس يدعي أنه النجاشي الأكبر الذي عليه أن يخضع باقي القوى المسيحية له وكان هذا يدفعه إلى التحالف مع قوى خارجية ولو اختلفت معه ديناً أو مذهباً .
ولاشك أن نشاط بريطانيا في داخل البحر الأحمر ضد الحملة الفرنسية في مصر ومحاولة بريطانيا جمع ما يلزمها من معلومات عن هذا البحر خاصة شمال جدة كان هذا يعني بداية انتقال معركة التنافس الدولي إلى داخل البحر وإلى بداية اهتمام بريطانيا به بعد أن كانت لاتهتم به كثيراً بل وتجهل عن أموره الكثير بما في ذلك الشئون البحرية الفنية نفسها مثل اتجاهات الرياح وقوتها في أنحائه وكان رد الفعل للنشاط الفرنسي الإنجليزي عند طرفي هذا البحر هي تلك التحركات التي أشرنا اليها في داخله غير أن التسارع إلى داخل البحر لم يقتصر على فرنسا وإنجلترا بل شاركتهما إيطاليا أيضاً عند نهاية ذلك القرن وخاصة في جنوب البحر .
وقد أحدث منح فرنسا مشروع شق قناة السويس في (1854م ) ثم افتتاحها في (1869م ) هزة أخرى في كيان البحر الأحمر أشد وأعمق مما أحدثته الحملة الفرنسية على مصر فقد تغلبت عندئذ طبيعة الممر على طبيعة البحيرة أي أختل التوازن بين الثابتين ففقد البحر كيانه كلية فقد أحتلت بريطانيا مصر عام (1882م ) واستمرت في ضم المحميات حول عدن كماذكرنا واحتلت فرنسا ميناء أوبخ ( أوبوك ) عام (1884) لتقيم بعد قليل مستعمرة جيبوتي واحتلت إيطاليا ميناء عصب عام ( 1869) لتجعل منه ومن ميناء مصوع نواة لمستعمرة إريتريا التي أعلنت قيامها عام (1890م ) وانطلقت بريطانيا من عدن لتحتل زيلع وبربرة الصوماليتين في (1884م ) وتشجعت السلطنة العثمانية واستولت على صنعاء عام (1872م ) حتى تكون تلك الوقفة خلفية تاريخية تنير أمامنا ما حدث بعد تلك الحروب من خلافات وصراعات وأعتقد أن أبدأ الحديث عن بريطانيا التي كان لها السبق في وضع قدمها عند مدخل البحر الأحمر ثم فرنسا المنافس الأكبر لبريطانيا حول الاستعمار حينذاك ثم إيطاليا التي عملت على أن تكون لها مكان بين الدول البحرية الكبرى عند إتمام وحدتها وسوف يتضمن الحديث نشاط كل منها على حدة وعن ما حدث بينهما من صدام أو وفاق بالإضافة الى موقفهم منفردين أو مجتمعين من السلطنة العثمانية .فبالنسبة لبريطانيا لا نريد العودة هنا إلى الحديث عن احتلال بريطانيا لعدن أو حتى لمصر فقد سبق أن أشرنا إلى ذلك من قبل لكن نريد فقط أن نلفت النظر إلى بعض النقاط التي قد تلقي بعض الضوء على الأحداث فيما بعد وخاصة إن خطوات بريطانيا في المنطقة كانت دروساً للقوى الأوربية الأخرى فمن ناحية كانت شركة الهند الشرقية البريطانية أكثر اندفاعا من حكومة بريطانيا نحو الاحتلال والسيطرة إذ كانت الحكومة عادة تنظر إلى الأمور بأفق أوسع يخضع للتوازنات والمنافسات الدولية وهذا ماكان يغيب عن الشركة فتسرع لاتخاذ خطوات لتحقيق مصالح آنية خاصة وقد تجد هذه الخطوات اعتراضات من الحكومة البريطانية نفسها غير أن هذا لا يعني أن الحكومة البريطانية كانت لا تراعي خطوات الشركة وتحميها وتنسق معها وإن اختلفت الآراء والخطوات أحياناً.
ومن ناحية ثانية عرفت الشركة طريقها إلى عدن والمخا في أوئل القرن (17م) كما ذكرنا ففشلت في إقامة وكالة تجارية في الأولى لكساد التجارة فيها حينذاك ونجحت في الثانية وأن لم يكن نجاحاً متواصلاً لظروف مختلفة غير إن مجيئ الحملة الفرنسية إلى مصر شد انتباه الحكومة والشركة على السواء إلى ضرو رت الاهتمام بالبحر الأحمر وخاصة بمدخله الجنوبي حتى لا تأتي منه أية أخطار تهدد ممتلكاتها الهندية وذلك مثلما فكر " البوكيرك " من قبل ومن هنا بدأ التفكير الجدي في إقامة محطة دائمة أي الاحتلال وكان التركيز حول عدن لأفضليتها عن غيرها كما سبق أن أشرنا وإن بدأ التنفيذ في البداية بعقد معاهدة تجارية مع حاكم عدن المحلي في عام (1802م ) وقد يطول الحديث عن المحاولات التي بذلتها بريطانيا وعن الاعتراضات التي واجهتها حتى تم لها احتلال عدن بالقوة (1839م ) بحجة نهب السفينة الهندية التي ترفع العلم البريطاني عند ما جنحت على ساحل لحج لكن يهمنا هنا الإشارة لحادثة صغيرة ذات دلالة هامة وهي أن قائد سفينة الشركة قد نقل القوة التي كان قد أنزلها في جزيرة ميون عام 1799م كما ذكرنا إلى ساحل عدن بسرعة لعدم ملائمة الجزيرة للحياة فيها وذلك دون ترتيبات مسبقة مع السلطات المحلية أومع مجلس إدارة الشركة في بومبي ثم نقلها ثانية إلى بومبي استعدادا لا رسال قوة أكبر إلى السويس وذلك بعد وقوع مشادة في المدينة قتل فيها جندي بريطاني وقد أستحسن مجلس الإدارة تصرف قائد السفن عند نقل الجنود من ميون إلى عدن لإنقاذهم من المرض الذي بدأ يفتك ببعضهم وذلك رغم اعتراض قائد السفن الملكية في البحر الأحمر على هذه التصرفات ويهمنا هنا اهتمام بريطانيا بجزيرة كمران منذ ذلك الوقت المبكر وذلك على يد قايد السفن الملكية نفسه .
يتبع