المثقف والتحديات الراهنة
يكاد يجمع علماء الأنثروبولوجيا على القول أن الثقافة هي ذلك الكل المعقد الذي يتضمن المعرفة والمعتقد والفن والخلق، والقانون والعادات الاجتماعية،
وأية إمكانات اجتماعية أخرى، بل وطبائع اكتسبها الإنسان كعضو في مجتمعه.
وهنا نصل إلى سؤال في ضوء التعريفات مفادهُ ما هو مفهوم المثقف؟
هناك من يرى أن المثقف هو الإنسان الذي يضع نظرة شاملة لتغيير المجتمع أو هو المفكر المتميز المسلح بالبصيرة كما يقول ماكس فيبر أو هو الذي يمتلك القدرة على النقد الاجتماعي والعلمي والسياسي أو هو المفكر المتخصص المنتج للمعرفة.
ويرى المفكر الرائد جرامشي أن هناك نوعين من المثقفين وهما المثقف العضوي، والمثقف التقليدي:
المثقف العضوي (أو الحزب بالمعنى الجمعي) هو الذي يعمل على إنجاح المشروع السياسي والمجتمعي الخاص بالكتلة التاريخية المشكلة من العمال والفلاحين والفقراء.
أما المثقف التقليدي فهو الذي يوظف أدواته الثقافية للعمل على استمرار هيمنة الطبقة أو الكتلة التاريخية السائدة من العبودية والإقطاعية أو عصر البرجوازية.
ويرى أن المثقف هو كل إنسان يقوم خارج نطاق مهنته بنوع من أنواع النشاط الفكري.
ويرى أحد الباحثين أن للمثقف صفتين رئيسيتين:
الأولى: هي الوعي الاجتماعي الكلي بقضايا المجتمع من منطلق بناء فكري محكم.
والثانية: هي الدور الاجتماعي الذي يلعبه بوعيه ونظرته، فالوعي الاجتماعي هنا يقود إلى القيام بدور اجتماعي إذ لا دور سياسي أو اجتماعي بدون وعي اجتماعي أو وعي بالواقع.
والسؤال هنا: أين المثقف أو أين نحن من كل هذه التعريفات؟
الواقع يحدثنا أننا أمام ثلاثة أصناف:
الصنف الأول: المثقف المغترب.
الصنف الثاني: المثقف المزيف أو الوهمي.
الصنف الثالث: المثقف الحقيقي.
الصنف الأول المثقف المغترب وهو الذي يشعر بالاغتراب الروحي والمكاني في وطنه وهو على نوعين:
النوع الأول: اغتراب سلفي يعيد إنتاج القديم.
النوع الثاني: اغتراب حداثي يتقاطع مع الواقع فيميل إلى الذات هروباً من المواجهة.
أما الصنف الثاني المثقف المزيف أو الوهمي وله ثلاث وظائف هي: التبرير، التخدير، التزييف وكل تلك الوظائف تقوم على فلسفة الباطل وقلب الحقائق وهدفه خدمة الحاكم والحفاظ على المصالح الذاتية.
أما الصنف الثالث المثقف الحقيقي أو العضوي الملتزم وهو الذي يعمل ويناضل من أجل مصالح العموم بما يحقق مشروعهم السياسي والاجتماعي في التحرر والعدالة والديمقراطية والانتصار للضوابط المتوافق عليها.. ونقول عليه حقيقي لأنه يشق طريقه رغم الاغتراب من ناحية ورغم مرارة الواقع وقسوته من جهة ثانية، مدركاً بوعي لمصيره ودوره المستقبلي ولواقعه وأبعاده المتعددة مالكاً القدرة على التفكيك وإعادة البناء والصياغة بما يحقق انزياح مجتمعه وفاعليته فيه مدركاً تمام الادراك قيم التدرج في إلغاء قيم وإحلال بدائلها.
وحتى نستطيع أن نرسم خارطة ثقافية وتلك مهمة غير سهلة لابد من التجديد، والتجديد لا يتم إلاّ من خلال إعادة بناء وممارسة الحداثة في معطياتها وتاريخها ارتباطاً بالتطور المادي الحضاري لمجتمعاتنا بما يؤدي إلى الترابط بين الأزمنة.
مهمة المثقف في اللحظة الراهنة أن يعيد صياغة نفسه وفق قيم نقدية عقلانية وديمقراطية تستوعب الآخر وتحاوره ولا تلغيه مبتعداً عن التحيز الفكري والتصورات الذهنية المسبقة عن الآخر.
وعليه أن يدرك واقعه تمام الادراك، ذلك لأنه واقع تغيب أو تتعطل فيه معظم اشكال سيادة القانون أو الديمقراطية الحقة أو المساواة أو الحرية أو المواطنة ،إنه مجتمع مشوه مجتمع الامتثال والطاعة، مجتمع ثقافة الاستهلاك والتبعية والخصخصة.. وهنا تكمن أهمية المثقف الملتزم التي لا تقوم على تبرير الوضع القائم بل على ممارسة النقد لما هو كائن التزاماً بما سوف يكون عبر كل أشكال الثقافة التنويرية التقدمية في الآداب والفنون وقنوات الاتصال المختلفة.. وبذلك قد يستطيع المثقف أن يعيد الاعتبار لدور الثقافة كسلطة اجتماعية تفرض نفسها بالاصطدام بالواقع وتغييره بعد أن غاب هذا الدور أو كاد....، إذ دلت دراسة أجراها المركز اليمني لقياس الرأي العام أن نسبة تأثير فئة الأدباء والمثقفين في صناعة القرار السياسي تأتي في أدنى المراتب من بين فئة المشائخ والقادة العسكريين وفئة الإعلاميين وهذا يعني أن ثمة خللاً في حياتنا الثقافية وغياباً عن الفاعلية والحراك والتحديث.
والسؤال الذي يطرح نفسه: أين ثقافة المشروع؟ لماذا لا يكون لأحدنا مشروع يعمل على بلورته في الحياة؟ لابد أن يكون لك هدف ما من وجودك، ماذا تريد؟ وكيف تصل إلى ما تريد؟ كيف تصنع ذاتك من خلال مشروع؟ كيف تصبح فاعلاً وقادراً على الفعل والتغيير؟
إذا ترسخت في إذهاننا ثقافة المشروع حينها سنكون قادرين على التغيير وفق محددات ثلاثة هي:
- الوقوف أمام الماضي ومساءلة مصادره المعرفية والثقافية ذلك أن الماضي يعيق نظام الطاقة على الحياة والقدرة على التجديد.
- مساءلة الحاضر البشري الثقافي والسياسي والاجتماعي وتفقد أثره وانتاجه وطبيعته الاجتماعية والسياسية والثقافية من أجل الخلق والابتكار ضمن حدوده النسبية لا المطلقة ومن خلال مكونه ومنظومته لا من خارجه بمعنى التغلغل في نسيجه العام وإعادة ترتيبه وصياغته وتأهيله..
- الوقوف أمام أسئلة المستقبل وخلق امكانية التحكم به عبر أدوات ومناهج العلم والتخطيط، لا الفوضى والارتجالية وسوء التخطيط التي نعاني منها في مظاهر حياتنا سواءً الفردي منها أو الجمعي.
وهذه المحددات تقودنا إلى موضوع الحرية، ذلك أن المثقف الملتزم يجب أن يكون عنصراً فاعلاً ومتسائلاً ومشاركاً في التغيير الاجتماعي وقادراً على قول منجزه بعيداً عن الأطر الأيديولوجية والاحتواءات السياسية والإملاءات التي قد تشكل ضاغطاً عليه وعنصراً مصادراً لحريته في التعبير.
وهذه الحرية لا تتناقض مع القول بأهمية المثقف العضوي أو الحزبي بالمعنى الجمعي الذي يحمل مشروعاً نهضوياً، إذا كان يؤمن بقيم الحوار ويستوعب الآخر ولا يلغيه، ولا يتحيز فكرياً باعتبار أن مشروعه هو الأهدى والأصلح وفكرته هي الأصوب، وعليه أن يدرك أن مشروعه يحتمل الخطأ كما يحتمل الصواب وأن الآخر قد يكون على صواب كما قد يكون على خطأ ومعياره في ذلك هو المنهج والمنطق ومؤشرات النتائج وفق قياسات علمية..
واستناداً إلى ما سبق دعونا نتأمل واقعنا قليلاً:
المثقف اليمني عموماً يعيش في مجتمع متخلف تقوم فيه أنظمة رجعية قمعية متخلفة تحارب الثقافة والتحديث، وتطارد الوعي، وكل الحركات والتموجات التي حدثت في تاريخنا المعاصر لا تعدو كونها اتجاهاً إصلاحياً توفيقياً استند إلى التراث حيناً، وإلى الثقافة الأوروبية حيناً وإلى الاثنتين معاً في بعض الأحيان وقد أفرز ذلك واقعاً ثقافياً مهزوزاً وانتج مدارس فكرية وسياسية مقلدة.
وحتى أكون أقرب إلى التوضيح أتساءل: كم حزباً سياسياً يحمل فكراً نهضوياً نابعاً من المقومات الوطنية الاجتماعية والثقافية؟ وأين مظاهر تلك الأيديولوجيات الحزبية على المستوى الاجتماعي؟ وماهي قيم التغيير الاجتماعي التي أحدثتها؟ وهل نلمس وجوداً لدوائر الفكر والثقافة والإعلام وأين أنشطة هذه الدوائر؟
هذه الأسئلة يجب أن تطرح، ويجب أن تناقش مع قيادات الأحزاب الفاعلة، نريد أن يكون لهم وجود ومناشط متعددة، باعتبار الأحزاب مؤسسات مجتمعية قائمة على مشاريع ثقافية نهضوية تخدم المجتمع وتحاول بلوغ غاياتها وباعتبار الفاعلين فيها نخباً ثقافية.
فمثلاً نحن نقول بالفساد ونشكو منه ليلاً ونهاراً وهو حقيقة واقعة في حياتنا وقد تحول إلى ظاهرة ثقافية.. ستقول لي كيف؟ أقول لك إن الغالب في أذهان الناس حالياً.. أن الإنسان المكتمل هو الذي يستفيد من منصبه سيارة وبيتاً ومزرعة ورصيداً في البنك هو لا يقول بمشروعية المسلك ولكنه يقول بالنفعية الفردية للذات، بغض النظر عن قدرته على تحقيق النفعية المجتمعية أو الوطنية؟ هذه قضية، قضية التباس في المفهوم وفي السلطة.. وهنا المحك الذي يجب أن تتضافر فيه الجهود لتغييره.. هذا أمر.
الأمر الآخر على مستوى الذات نحن بحاجة إلى إعادة بناء ذواتنا بما يتناسب مع قيم الحرية والديمقراطية والحوار قد يكون مقبولاً منك أن تدافع عن فكرتك لكن ليس مقبولاً منك أن تصادر حرية الآخرين بسبب اختلافهم معك أو ان تناصبهم العداء إذا كنت مقتنعاً بفكرتك ولست مستعداً للحوار فليس بالضرورة أن يكون الآخر على وفاق تام معك وليس بالضرورة في ذات السياق أن يكون عدواً لك.
موضوع التحيز الفكري أصبح تطرفاً بمعنى أو بآخر، والتصورات الذهنية المسبقة على الآخر لا تمت إلى المنطق والحقيقة بصلة، علينا إعادة الاعتبار للعقل وللمنطق، وحتى تغير يجب أن تتغير أنت في ذاتك، عليك مراجعة مصفوفة القيم والأخلاقيات المعبرة عن ذاتك قبل أن تدعو إلى الفكرة التي ربما كانت نقيض قيمك وسلوكك وأخلاقك.