البحر الأحمر ملتقى الأطماع الاستعمارية: (97)
كما ذكرنا سابقاً وقد يطول الحديث عن المحاولات التي بذلتها بريطانيا وعن الاعتراضات التي واجهتها حتى تم لها احتلال عدن بالقوة (1839م ) بحجة نهب السفينة الهندية
التي ترفع العلم البريطاني عند ما جنحت على ساحل لحج لكن يهمنا هنا الإشارة لحادثة صغيرة ذات دلالة هامة وهي أن قائد سفن الشركة قد نقل القوة التي كان قد أنزلها في جزيرة ميون عام 1799م كما ذكرنا إلى ساحل عدن بسرعة لعدم ملائمة الجزيرة للحياة فيها وذلك دون ترتيبات مسبقة مع السلطات المحلية أو مع مجلس إدارة الشركة في بومبي ثم نقلها ثانية إلى بومبي استعدادا لا رسال قوة أكبر إلى السويس وذلك بعد وقوع مشادة في المدينة قتل فيها جندي بريطاني وقد أستحسن مجلس الإدارة تصرف قائد السفن عند نقل الجنود من ميون إلى عدن لإنقاذهم من المرض الذي بدأ يفتك ببعضهم وذلك رغم اعتراض قائد السفن الملكية في البحر الأحمر على هذه التصرفات ويهمنا هنا إهتمام بريطانيا بجزيرة كمران منذ ذلك الوقت المبكر وذلك على يد قايد السفن الملكية نفسه فقد رأى في عام (1801م) أنها مناسبة للإحتماء بها شتاء وإقامة مستشفى عسكري كذلك وأنه يمكن الحصول على الاحتياجات التموينية لمن يقيم بها من ميناء اللحية لذلك سارع بالحصول على تصريح مع غيرها من المواقع من المسؤول العثماني في مينا السويس فسمح له في إطار التعاون المشترك ضد الفرنسيين في مصر .. ويبدو أن اكتشاف أهمية جزيرة كمران قد أغرى بريطانيا أي الشركة على أن تمتلك هذه الجزيرة أو على ألا تقع في أيدي معادية لها على الأقل فقد أشاعت حكومة "بومبي " في عام (1805م ) أن حاكم اللحية الشريف حمود قد باع جزيرة كمران للسيد محمد عقيل السقاف لكي يقيم فيها الفرنسيون مؤسسة تجارية وقد أسرع القنصل البريطاني كما أسلفنا لمقابلة الشريف وللتحري عن صحة هذه المعلومات كما أهتم بزيارة الجزيرة بعد المقابلة ووصفها أنها أفضل ما رأى في البحر الأحمر بعد عدن وأنها أنسب مكان لإقامة مستوطنة بريطانية عليها . وقد كالت الشركة الاتهامات فوق رأس السيد السقاف فاتهمته بأنه أستولى على سفينة أمريكية ونهب مافيها ثم أحرقها وقتل قائدها ومعه أحد الرعايا الإنجليز وأتهمته أيضاً بأنه يقيم تحصينات في الجزيرة لصالح الفرنسيين . والحقيقة أن السقاف بريئ من كل هذه التهم وخاصة تهم القرصنة ضد السفينة الأمريكية بالقرب من ميناء المخا فقد غادر السقاف الميناء إلى باب المندب قبل ذيوع قصة السفينة بعدة أيام كما ذكر أهالي المخا أنفسهم الذين لم يشاهدوا أية آثار لهذه القصة التي لم يعرفها مصدراً معيناً . وقد أسرع عندئذ طرادان من قبل الشركة ولحقتهما عدة سفن حربية ملكية بعد ذلك واتجهت جميعها إلى أبي عريش للضغط على الشريف حمود بفسخ الصفقة مع السقاف وإعادة أمواله وعدم السماح ببناء مستوطنة بالجزيرة فرنسية أوللسقاف وهدد مندوب الشركة بأنه إذا لم يقم الشريف بتنفيذ ما طلبه منه فإن الحكومة البريطانية مضطرة إلى الاستيلاء على الجزيرة والاحتفاظ بها ويلاحظ أن الشريف قد أعترف باستلامه أموالاً من السقاف ولكنه لم يؤكد أن الأخير قد أشترى الجزيرة لصالح الفرنسيين , وفي نفس الوقت الذي شعر فيه السقاف بأن بريطانيا تلاحقه للقبض عليه وعلى سفنه قام السقاف وكان قد أستقر في بلدة ظفار بإرسال خطاب إلى حاكم بومبي يؤكد فيه براءته من أنه أشترى الجزيرة لصالح الفرنسيين ومن باقي التهم وأنه مستعد أن يضع نفسه تحت حماية بريطانيا غير أن هذا الخطاب لم ينقذه من مصيره المحتوم الذي قررته بريطانيا له فقد أُ لقي القبض عليه ونقل إلى سجن بومبي بعد أن كان منافساً قوياً للشركة بين الهند والسواحل العربية الجنوبية .
ويبدو أن بريطانيا قد أصابت أكثرمن هدف بإطلاق هذه التهم وهي العمالة لفرنسا والقرصنة ضد سفينة أمريكية . فقد قضت الشركة على منافس عربي كبير يمتلك عدة سفن لنقل الجارة إلى الموانئ الجنوبية للجزيرة العربية وذلك في وقت كانت قد أعدت مع حاكم عدن معاهدة تجارية (1802م ) , وبدأت التركيز فيه على أن تتخذ عدن مقراً عسكرياً واقتصادياً عند مدخل البحر الأحمر . وحققت بريطانيا كذلك إبعاد فرنسا عن الجزيرة , وأيضاً أية قوى محلية تريد أن تستثمر إمكانيات هذه الجزيرة لمصالحها التجارية .. وهكذا كانت بريطانيا وشركتها تنجح في تلفيق التهم لمن تريد لتغطية أهدافها ومصالحها الاستعمارية والاستغلالية والاحتكاريةالخاصة بهذه الطرق القذرة كما كانت ترفع شعارات براقة مختارة عند كل مناسبة مثل محاربة القرصنة كما فعلت مع السقاف حتى تبرر موقفها أمام السلطنة العثمانية وغيرها .. وفي نفس الوقت لم تتعجل بريطانيا السيطرة على جزيرة كمران حتى لا تثير ثائرة فرنسا كما عبر ساستها حينذاك وإن ظلت موضع اهتمامهم باستمرار كما سنرى.
ومن ناحية ثالثة وأخيرة نرى أن بريطانيا تعمل على الاستفادة من نقاط الضعف في البلاد التي تريد أن تقفز إليها لتخضعها لسيطرتها ويتضح عند الرجوع إلى تاريخ اليمن عند أوائل القرن (19م ) أن السلطة المركزية في صنعاء قد بدأت في الضعف مما جعل الأطراف تجنح إلى تكوين كيانات خاصة بعيدة عنها وينطبق هذا على موقف كل من الشريف حمود (أبو مسمار) في أبي عريش , والسلطان العبدلي في عدن إذ كان كل منهما يعمل لحسابه الخاص بعد أن تراخت السلطة المركزية في أرض سيطرتها عليهما فقد تسلم الشريف حمود مبلغاً من المال وكمية من الأسلحة من السقاف أي تصرف فيما لايملك سواء بالإيجار أو التمليك ليستعين بهما أمام عدوه ( أبي نقطة ) المسيطرعلى جبال عسير بعد أن فقد الأمل في نجدة الإمامة في صنعاء له باعتباره عاملها في أبي عريش, وكذلك عقد العبدلي معاهدة تجارية (1802م ) مع بريطانيا ليستفيد من وراء إنعاش التجارة في عدن إذ وعدته بريطانيا بأن من السهل على شركتها أن تأمر سفنها بتجارة الهند إلى عدن وليس إلى المخا وذلك لتدعيم سيطرته في لحج وليحمي موقفه أمام سلطة صنعاء المركزية الضعيفة . يتبع العدد القادم إنشاء الله