الساحل الغربي ملتقى الأطماع الاستعمارية « الحلقة 48 »
صراع المصالح بين البريطانيين والفرنسين وصل حتى أوجه وذروته عقب افتتاح القناة
تزايد الاطماع للدول الاستعمارية وفي مقدمة تلك الدول الفرنسيون والبريطانيون وخاصة بعد افتتاح قناة السويس فقد تصاعد النشاط الفرنسي في البحر الأحمر بنشاط غير مسبوق وكان للبريطانيين دور فعال حيال ذلك .
كان الفرنسيون قد أعدوا منذ عام 1862م مشروعاً خاصاً بإنشاء خط ملاحي مواز للخط الانجليزي , وكان هذا الخط يتطلب البحث عن موانئ لوقوف السفن وتزويدها بالقمح والمؤن عند المدخل الجنوبي للبحر الأحمر بالقرب من بوغاز باب المندب ولقد اقترحت الحكومة الفرنسية على الشركة المعنية , وهي شركة (المسا جيري ) في عام 1862م أن تجعل من أوبوك مقراً لإدارة الشركة إلى أنها رفضت هذا الاقتراح لأنها كانت قد حصلت على قطعة أرض لها في عدن وهكذا لم يتم إنشاء هذا الخط الملاحي , خصوصاً وأن وزارة البحرية من جانبها رفضت أن تقوم بالأنفاق على تكاليف بناء ميناء أوبوك , والإنفاق على حامية تحضرها من السنغال , وظهر أن الحكومة الفرنسية لا ترغب في إقامة أية منشأة حكومية في أبوك . وفي عام 1870م قام قنصل بريطانيا العام بإخبار خديوي مصر بأن شركة فرنسية تدعى " بازان بارولان " أرسلت باخرة إلى حدود اليمن عند جزيرة بريم " ميون " واشترت ثلاثة آلاف هكتار من الأراضي اليمنية الواقعة في مواجهة تلك الجزيرة , ويقصد بها منطقة الكنداسة ( الشيخ سعيد ), واستولت عليها , ورغم أن هذه المنطقة لم تكن تابعة للحكومة المصرية فإنه رأى من واجبه إحاطة الصدر الأعظم علماً بذلك ولاشك أن ذلك يوضح محاولة البريطانيين إثارة خديوي مصر , وإشراكه في العمل للحيلولة دون سيطرة الفرنسيين على منطقة الشيخ سعيد المجاورة لحدود مستعمرتهم في عدن .. بهذه الطريقة تمكنت بريطانيا بأساليبها من الحيلولة دون تحقيق مآرب الفرنسيين في اتخاذ ميناء الشيخ سعيد وجعلها نقطة ارتكاز منافسة للوجود البريطاني في ميناء عدن الهام , ومركز انطلاق لتحقيق المصالح الفرنسية في منطقة البحر الأحمر على نحو ما فعلته بريطانيا بسيطرتها على عدن بحسب الدكتور فاروق عثمان أباظة مؤلف كتاب عدن والسياسة البريطانية بأن تلك الانتكاسة للفرنسيين سببها الجهود التي بذلتها بريطانيا للحيلولة دون نجاح الفرسيين في تحقيق غايتهم فضلاً أن منطقة الشيخ سعيد لم تكن بمستوى ميناء عدن هذا ولقد نجحت بريطانيا بإثارة العثمانيين وتمكينهم من فرض السيادة العثمانية على الشيخ سعيد وهو ما تذرع به البريطانيون وساندوه ليواجهوا المنافسة الفرنسية , ويحبطوا تطلعاتها في منطقة البحر الأحمر في ذلك الحين وخاصة بعد عقب نجاح المهندس الفرنسي دلبسس من شق قناة السويس وفتحها للملاحة كشريان هام يجعل من الفرنسيين الند لمنافسة بريطانيا العظمى وبعد ذلك أتجه الفرنسيين بكل ثقلهم على الساحل الغربي للبحر الأحمر وعادوا نحو أوبوك لاتخاذها نقطة انطلاق لتحقيق تطلعاتهم الاستعمارية ومنافسة النفوذ البريطاني في منطقة البحر الأحمر المتمركزة في عدن حينذاك.
في عام 1872م طلب مستعمر فرنسي ثري يدعى د ينيس دي ريفوار من حكومته الإذن في الإقامة في أوبوك بقصد إنشاء مؤسسة وفتح العلاقات التجارية مع الحبشة وقد وافقت الحكومة الفرنسية ومنحته الامتيازات في تلك الأراضي في عام 1879, وقد اشترطت عليه وزارة البحرية والمستعمرات " أن انشاء هذه المؤسسة سيكون على مسؤوليته وبشكل المؤسسة الخاصة لأن الحكومة قد قررت الإمتناع عن الاشتراك في أي مشروع بعيد ولم ترسل إلى أوبوك أي جندي أو أي ممثل لسلطاتها الإدارية, ولهذا فإنها لم تكن تستطيع تقديم العون في حال نشوب مشاكل أومصاعب بينه وبين الأهالي المجاورين .. ولم يكن على دينيس إلا أن يعتمد على وسائله الخاصة لكي يقيم ويحافظ على نفسه وممتلكاته في أبوك .
وبالرغم من أن وزارة البحرية قد رفضت معاونة دينيس دي ريفوار بل أن السفن الحربية بعد أن أنشأ مؤسسته كانت تتردد عليه ذهاباً وإياباً كانت السفن الفرنسية تجوب البحار وفي هذه الآونة كانت مصر متواجدة في شرق إفريقيا ووسطها وعلى كل السواحل الصومالية حتى رأس حافون , وتحتل إقليم هرر في الداخل وتعترف إنجلترابملكية مصر لكل هذه المناطق في معاهدة الصومال .. ولقد وقعت أول حادثة بين مصر وفرنسا بخصوص أوبوك, وكان سببها المباشر تيقظ مصر لحقوقها على سواحل البحر الأحمر, ومعرفتها بالنشاط الذي كان يقوم به عملاء الدول الأجنبية في تلك المناطق لحساب مشروعات دولهم التوسعية في شرق افريقيا وفي هذه الاثناء كانت إيطاليا قد نزلت بجهودها إلى المنطقة وأصبحت تشكل منافسة خطيرة للوجود المصري والبريطاني والفرنسي مما دفع مصر إلى تثبيت ساريات على طول الساحل الإفريقي ورفع العلم المصري عليها.. يقول جلال يحيى في كتابه التنافس الدولي في بلاد الصومال أنه حدث بعد بضعة أيام أن مرت أولى البواخر للحكومة الفرنسية التي تحمل تعليمات وزارة البحرية الفرنسية في البحر الأحمر متجهة إلى المحيط الهندي , ومكلفة بعمل (تحديد عام لأراضي الحكومة في أوبوك طبقاً لمعاهدة مارس 1868م ) , ولم يكن من قبطان الباخرة إلا أن ينكر رؤية ساريات على الساحل رغم أنه وجدها وأدعى أنه لم يجد أي علم يرفرف عليها ثم أنه ذكر أنه سأل مجموعة من المواطنين القاطنين قريباً من تلك الأماكن لكنهم افادوا بعدم معرفتهم بشيء فواصل القبطان رحلته حتى زيلع على أمل أن يقابل علي باشا رضا أمير البحر المصري وحاكم عام سواحل البحر الأحمر , والذي كان يتهه البعض في عدن بأنه هو الذي أرسل الزورق المصري من مصوع لرفع العلم المصري في أوبوك ولكن علي باشا رضا كان يقيم في ذلك الوقت في مصوع ويقول شوقي الجمل في الوثائق التاريخية لسياسة مصر في البحر الأحمر أن القبودان الفرنسي أضطر للاستفسار عن تلك المسألة من نادي باشا حاكم اقليم هرر, والذي كان يقيم في زيلع ثم من أبوبكر باشا محافظ زيلع وصديق فرنسا القديم ولكن أحد منهم لم يكن له علم بما وقع , وحتى بمسألة شراء فرنسا لأراضي أوبوك ولم تسكت البحرية الفرنسية أو وزارة الخارجية في باريس عما وقع , وسرعان ما اهتزت البرقية , وقدم قنصل فرنسا العام في القاهرة ملاحظات حكومته إلى الخديوي الذي اجاب بدوره بأنه يجهل هذه المسألة من أساسها , واضاف أن الحكومة المصرية لم تعترف أبداً باستيلاء فرنسا على أوبوك ولكنه لا يرغب في عمل مشادة بهذا الخصوص طالما كان هذا الشراء قد تم دون أن تترتب عليه أي نتيجة . غير أن القنصل العام الفرنسي قد أجاب بأن حكومته ترى أن حقوقها في ملكية أوبوك لا يمكن أن تكون موضوع جدال , ولذلك فإنها لن تسمح لأي كائن كان بأن يعتدي عليها.
يقول الدكتور جلال يحيى أن هذ الموقف المتشدد من جانب فرنسا نتيجته المرجوة على مصر, وخصوصاً وأنها كانت في موقف صعب مع الحكومة الإيطالية التي كانت قد أرسلت مندوباً عنها في موقف صعب مع الحكومة الإيطالية التي كانت قد أرسلت مندوباً لها في عصب , ولم يكن تأييد إنجلترا للسيادة المصرية أن يؤدي جدالها أو الأجدر خلافها مع فرنسا بخصوص أوبوك إلى تعاون أكثر بين هذه الدولة وإيطاليا بحيث يكون نتائجه التوسع على حساب مصر في سواحل البحر الأحمر خصوصاً وأن تأييد إنجلترا لمصر في تلك الفترة كان تأييداً نظرياً وأدبياً ولو تعاونت إيطاليا و فرنسا في توسعها في تلك المناطق لكان ذلك ما يقلل أهمية التأييد الإنجليزي لذلك فقد اضطرت مصر إلى عدم التشدد مع فرنسا ونجد أن مصطفى باشا فهمي يبلغ القنصل الفرنسي في 20فبراير سنة 1880م أنه قد كتب إلى حاكم سواحل البحر الأحمر وطلب منه بيانات في مسألة رفع العلم ثم بلغ القنصل الفرنسي فيما بعد أن مدير السواحل قد تصرف في مسألة رفع العلم المصري على أوبوك دون حصوله على تعليمات من القاهرة , وأن الحكومة المصرية قد قامت بمجرد علمها بماحدث بإرسال تعليمات صريحة لهذا الموظف ناصحة إياه ألا يوافق على عمل يسعى إلى تغيير الو ضع القائم على ساحل أوبوك . نواصل في العدد القادم بإذن الله تعالى.