كتابات | آراء

بوح اليراع: هل يُفضي رحيل الصادق المهدي بحزبهِ إلى التلاشي؟

بوح اليراع: هل يُفضي رحيل الصادق المهدي بحزبهِ إلى التلاشي؟

الصادق المهدي الذي استطاع بكاريزميته الفريدة الحفاظ على حضور فاعل في المشهد السياسي السوداني عقودًا زمنية عديدة بدءًا بانخراطه -في مستهل ستينات القرن الماضي-

في صفوف المعارضة التي ضد نظام (الفريق إبراهيم عبود) الذي اعتمد -في استيلائه على السلطة- على الوسائل الانقلابية المتنافية مع مبادئ الديمقراطية مرورًا بمعارضته على الدوام لديكتاتورية من عاصره من الحكام وانتهاءً برفضه لما ارتكبه ما يسمى (مجلس السيادة) من جُرمٍ فظيع في توقيع اتفاقية التطبيع التي وُقَّعت قبل أسابيع قليلة من رحيله، يُعَدُ من السياسيين القلائل الذين أثبتوا -بالفعل قبل القول- تمسُّكهم ببعض ما يهتفون به من الفضائل.

تأريخٌ نضاليٌّ مثالي وتجربة سياسية خِصْبة
إنَّ نشأة الصادق المهدي في أجواءٍ أسريَّة مستنيرة ومستقرة وآمنة قد أسهمت في جعله شخصية متزنة تجعل في صدارة اهتماماتها حصول المواطن السوداني على ما يصبو إليه من مواطنة.
ومن هذا المنطلق التربوي دشن الصادق المهدي حياته السياسية بترؤس «الجبهة القومية المتحدة» المعارضة خلال الفترة (1961 - 1964) وبجدارة مكنته -في نوفمبر 1964م- من الفوز في انتخابات رئاسة "حزب الأمة" الذي اضطلع من خلاله بدور معارض بأفضل ما يمكن من جودة الأداء التي لم تلبث أن بوأته -في الفترة من 25 يوليو 1966م إلى مايو 1967م- منصب رئاسة الوزراء الذي لم يثنِه عن الاضطلاع بدوره المعارض إلى حدِّ تعرُّضه للاتهام بالجمع بين النقائض، الأمر الذي حمله على التضحية بمنصب رئاسة الحكومة حتى يتفرَّغ للعب دور معارض أكثر تمثُّلا لقضايا الشعب وهمومه.
وقد كان ينطلق في معارضته ذات النبرة الناصحة الخافتة من منطلقات وطنية ثابتة لم يحِد بها -حتى وهو في المنفى- عن أهدافها الرامية إلى تحقيق ما يصبو إليه السواد الأعظم من شعبه من العيش الكريم ضمن دولة حديثة وقوية يحظى الفرد في ظلها بالفُرص المتكافئة والمواطنة المتساوية.
وبالرغم من أن الصادق المهدي قد عاش حياته السياسية التي امتدت لأكثر من 6 عقود زمنية مُعارضا، فما أكثر ما كان -من منطلق الحرص على المصلحة الوطنية العليا- يمد يده للخصوم السياسيين محاورًا ومفاوضا، فبالرغم من فراره -على سبيل المثال- في عام 1996 من ملاحقة نظام البشير، فقد التقى الترابي في جنيف، والتقى البشير في جيبوتي بعد فراره بثلاثة أعوام ليُوقع معهما ممثلين عن النظام -برعاية جيبوتية- اتفاق تعايش وسلم وسلام ولما فيه خدمة الصالح العام.
وهذا التأريخ الطويل من المعارضة البناءة المتسمة بالمرونة في التعامل مع الخصوم السياسيين يعكس حنكته في تسطير تأريخٍ نضالي مثالي وتجاوز ما اعترض طريق تسطيره من صعوبة، ويدلُّ على تجربة سياسية غايةً في الثراء والخصوبة.

فشله في التغلُّب على تقريب الأقارب
لعل أهم العوائق التي تحول دون بناء دول عربية معاصرة هو عقدة (تقريب الأقارب) ومنحهم ما ليسوا أهلاً له من الوظائف والمناصب تلك العقدة التي لم يكن الراحل مستثنى منها ولم يستطع -على امتداد تأريخه السياسي والتنظيمي الحزبي- الفكاك عنها.
فعلى الرغم من عراقة حزب الأمة وتأثيره في الشأن السياسي السوداني، فإن قيادته من قِبل الصادق المهدي بأسلوب أسري وطائفي تقليدي قد حصرت رئاسته في شخصه مدة خمسة عقود أو تزيد، وحالت دون حدوث ما تتطلبه المتغيرات من تجديد، وعلى هذا الأساس لم يكن -على حدِّ توصيف الكاتب السوداني عثمان ميرغني الحسين- (حزباً مؤسسيًّا ينهض على هياكل تنظيمية داخل الحزب تحافظ على ثبات خطه السياسي وقراراته ومواقفه، فكثير من قادة الحزب أكدوا أن شخصية الصادق المهدي كانت محورية في بناء مواقف الحزب، وفي ترسيخ دعائم الدور الذي يلعبه أفراد أسرته الأقربون).
وقد كانت ممارسات الرجل الأسرية متناقضة مع قناعاته وأفكاره التنظيرية للديمقراطية وليس أدل على ذلك من قيامه -فور عودته إلى الخرطوم على ضوء توقيع اتفاق المصالحة مع نظام البشير- بتأسيس مكتبٍ قياديٍّ جديدٍ للحزب من 17 عضواً، كان 9 منهم من أعضاء بيته الأقربين، أما أولى ثلاث زيارات خارجية مثلت الحزب فقد تمت على النحو التالي: الأولى قام بها هو إلى القاهرة، والثانية قامت الدكتورة مريم الصادق المهدي ابنته إلى كمبالا، والثالثة قامت السيدة سارة المهدي زوجته إلى بيروت؛ مما جعل أحد أعضاء المكتب القيادي يرفع صوته بالاعتراض على احتكار الأسرة تمثيل الحزب).
والآن وبعد وفاته فإن النظام الداخلي للحزب يجعل ابنته الدكتورة مريم المهدي التي كانت -لاعتبارات أسرية بحتة- قد أصبحت نائبته هي الأحق في ترؤس حزب الأمة وقيادته، ومن المرجح أن الأعراف السودانية التي تعيب على الرجال الانقياد للنساء ستدخل بهذا الحزب الذي أدير لعقود عدة بنمطٍ أسري انكماشي في مرحلة حاسمة من التلاشي.

أخبار الجبهات

وسيبقى نبض قلبي يمنيا
لن ترى الدنيا على أرضي وصيا