الوعي بالمرحلة وبمتطلبات السلام العادل
ربما وضعت الحرب في اليمن أوزارها، لكنها في حقيقة الأمر قد أشعلت حروباً أخرى لم تكن في خُلْدِ من يرى في الحرب مخرجاً من أزمةٍ تعصف به،
وملاذاً يمكن من خلاله النفاذ إلى مراتب متقدمة فيه, تجعله يتجاوز عثراته الآنية ليخلق أزمات أكثر تعقيداً, وأكثر تهديداً لأمن واستقرار اليمن.
وإذا كانت اليمن قد شَبَّتْ عن الطوق ولم تعد ورقةً على طاولة المصلحة السياسية لدول الجوار والإقليم يمكن اللعب بها وقتما أرادت الرغبات والمصلحة، فأن التنظيمات الإرهابية قد تصبح تهديداً حقيقياً لأمن واستقرار واستقلال اليمن والإقليم طالما والتحالف العربي الذي يغزو اليمن يستخدم تلك التنظيمات كأدوات وقوة بشرية وثقافية في ادارة معركته في اليمن, ففي المستقبل المنظور سوف يفقد قدرته على التفاعل مع المعادلات الحقيقية التي يصنعها الواقع السياسي الجديد, وسيكون الأثر على السعودية وعلى الإمارات أشد وقعاً وأثراً من غيرهما.
هناك من يتعامل مع مشكلات الحاضر في اليمن من زاوية مصالحه مع الواقع خوف أن تتضرّر تلك الامتيازات, وتبعاً لذلك فنحن نرى عوامل الانهيار تترى وعبارات التهوين والتقليل والتخويف تتعالى, وقد يظل الأمر كذلك حتى يتمكن (عملاقةُ) هذا الزمن من تسليم رأس الخليفة العباسي إلى (هولاكو) كما فعلوا ويفعلون وما قصة صدام حسين عنا ببعيد.. إنَّ طول الأمد مفسدة، لأنَّه لا يتجدَّد وإن تجدَّد فبقدر حاجته هو، لا بقدر حاجة الناس ومعطيات الواقع وتموجاته, ذلك لأنه يألف الأشياء ولا يريد لها أن تتغير في حين أن واقع تلك الأشياء يجبرها على التبدّل والتغير، ومن هنا ندرك أن الحياة بكل أبعادها صيرورة دائمة وبحث دائم عن الممكنات وهي غير قادرة على الثبات، وإذا ظل الأمر ثابتاً جاءت إرادة الحياة تحمل مشروع التغيير وقد يبدو صغيراً في بدايته لكنَّة إذا عرف الممكن أصبح كبيراً وعِبرُ التأريخ في ذلك لا تحصى.
إنَّ وحدة الوطن اليمني يجب أنْ تظل مشكاة منها تنبثق المشاريع الحضارية لهذا الوطن، ولا نريد لهذه الوحدة أنْ تتشتت أو أن تتشظى وهنا جوهر القضية، ذلك لأننا نرفض الشتات والتمزق ونرغب في التعدّد الذي ينبثق من مشكاة الوحدة ذلك التعدّد الذي يصدرُ عن بعد رؤيوي يحمل معالم مشروع حضاري لهذا الوطن، أما أولئك الذين يحلمون بمشاريع صغيرة قائمة على الشتات والتمزق فلن يرفضهم الواقع إلا في حالة واحدة وهي أن يكون هذا الواقع متجدداً ويوازي في طموحه مجد الذاكرة الذي يقوم عليه ذلك المشروع, وفي ذات السياق لا بد أن يكون متجاوزاً عثرات الماضي لا مجتراً لها, ومكرراً لظلالها في حياة الناس، ذلك لأنّ المشاريع التي تقوم على قيم الذاكرة حين لا تجد نفسها في الحاضر والمستقبل تستعيد مجدها في الماضي.
والواقع اليوم يفصح بكل بيان ووضوح أن مشكلة اليمن ذات أبعادٍ ثلاثة هي:
-البعد الأول: يتجلى فيمن يرى نفسه في تجليات الحاضر ولا يجد له أملاً في المستقبل، فأيقظ ذاكرة مجده القديم.., وهذا البعد يتمثل في مشروع السلطنات والمشروع السلفي.
- البعد الثاني: ويتجلى في أولئك الذين ألفوا الأشياء، وأرادوا أن تكون كما هي من الثبات خوف التضرَّر وفقدان الامتيازات والمصلحة ويتمثل هذا البعد في نظام هادي ومن تشيَّع له.
- والبعد الثالث: يتجلى في أولئك الذين اجتهدوا في تشخيص أزمة اليمن وخرجوا برؤية وطنية قائمة على مبدأ الحوار وحملوا على أكتفاهم مشروعاً حضارياً يمثلُ رؤيتهم قد نتفق معهم فيه, وقد نختلف لكنه بذرة مشروع بوادره في صنعاء.
إذن في تلك الأبعاد تكمن كل إشكالات هذا الوطن، فالصراع يحمل بعداً زمنياً أدركنا ذلك أو لم ندركه فهو بالضرورة فاعل في مجريات الحدث، ولعلنا ندرك أنَّ موضوع الحوار لا بدَّ له أن يأخذ البعد التاريخي كبعد مؤثر وفاعل في صنع الحدث ولا بدَّ أن نتحاور معه ونتصالح، إن أردنا سلاماً دائماً والتصالح لا يكون إلا بإشاعة قيم الحق والعدل والسلام، واحترام القانون وتفعيل العمل المؤسسي، والحد من ظاهرة الشخصنة والاختزال، والاستسلام الكامل والمطلق لمبدأ التداول السلمي للسلطة، كحقيقة ذات قيمة لا وهماً يحسبه الظمآن ماءً حتى إذا جاءه لم يجده شيئاً.
***
فبعد أكثر من سبع سنوات من الحرب والعدوان والتدمير, يكتشف ابن سلمان أن الحوثيين يمنيين وبهم نزعة عروبية, وهم ليسوا فارسيين, لم يدله على هذا الاكتشاف سوى البأس الشديد الذي لم يهزم ولم يلن في جبهات المواجهات, وحسب الظن كان يعتقد أن الحرب مع اليمنيين نزهة صيف.
لم يسمع ابن سلمان كلام العقلاء من أرباب الفكر والسياسة مثل هيكل الذي قال له في بداية عدوانه على اليمن : ستحارب السعودية اليمن وستغرق في مستنقع اليمن وسوف ينتصر اليمن, وطوال زمن العدوان يتكرر القول على لسان قائد الثورة السيد المجاهد عبد الملك بدر الدين الحوثي : نحن رجال سلام ولسنا رجال استسلام ولم يفهم ابن سلمان ما كان يقال له,أو ما قيل,حتى رأى من آيات ربه الكبرى في ميادين الشرف والبطولة ما جعله يعترف بيمنية الحوثي الذي كان يراه مجوسيا وفارسيا في خطابه السياسي والاعلامي, ولم يدرك أن الحوثي هو اليمن واليمن هو الحوثي, فالحوثي لم يكن إلا جزءا من كل, وهو حالة اجتماعية وثقافية وسياسة وعسكرية يمنية خالصة, لم تأت من خارج اليمن, ولم يكن لها ارتباط تنظيمي بالخارج بل علاقات ندية ومصالح مشاركة.
نحن اليوم على أعتاب مرحلة جديدة, فالعدو يتداعى وينهار ويفقد مفردات قوته يوما بعد آخر ونحن أصبحنا نملك زمام المبادرة ونسيطر على مفردات اللعبة السياسية والعسكرية ولابد لنا من التفكير في البعد الثقافي حتى تكتمل أبعاد النصر ومفرداته, فالنقص الذي نتركه في المستوى الثقافي قد يكون سببا مباشرا في التعثر إذا لم نتداركه بوعي وبصيرة وحنكة واقتدار.. وتأكيد قائد الثورة في جل خطاباته على الوعي لم يأت من فراغ بل من شعور بالغ بأهميته والوعي متعدد المستويات فحتى تكون مؤثرا في النظام العالمي الجديد لا متأثرا به,وخاضعا له, لابد لك من الدراسة والبحث,ووضع الاستراتيجيات لتصل الى أهدافك, فالقضايا السياسية ليست حالات طبيعية مطلقا, بل تصنع بقدرات ذهنية, وكل صناعة تتطلب اهتماما مضاعفا من الرعاية والتشذيب والسقاية حتى نصل الى الثمرة.. فالنصر الذي تلوح بيارقه اليوم لا يكتمل إلا بالوعي في المستويات الحضارية والثقافية والسياسية الحديثة, فالانتصار العسكري يصبح دون جدوى إذا لم يتعاضد مع غيره, ذلك أن اليوم لم يعد مثل الامس,والغد لن يكون مثل اليوم,فالتغير المتسارع في المستوى الحضاري الحديث يتطلب وعيا به لا قفزا على حقائقه.
فروسيا اليوم تعيد ترتيب نسق التوازن الدولي وهي بذلك تحشر أمريكا في زوايا أخلاقية ضيقة بعد أن عمدت الى كشف الكثير من الاسرار التي كانت تدار من أوكرانيا, وفي المعامل البيولوجية التي تصنع الفيروسات, حتى تنشط الشركات وتتحرك الاموال, فالعالم لم يشهد شيوع الفيروسات بالقدر الذي شهده إلا بعد أن تفردت أمريكا بقيادة النظام الدولي منذ انهيار المنظومة الشرقية مطلع عام 90م من القرن الماضي, حيث شهد العالم حربا بيولوجية لم تكن معهودة, بدءا بفيروس فقدان المناعة ومرورا بالجمرة الخبيثة وأنفلونزا الطيور والخنازير وآخرها فيروس كوفيد 19 الذي أرعب العالم.
النظام الرأسمالي نظام مستغل وغير سوي, ويعمد الى التضليل وصناعة الأوهام حتى يتمكن من تحقيق مصالحه, وهو في ذاته غير قابل للاستمرار لأنه فقد مقومات وعناصر استمراره, لذلك نرك أوكرانيا تواجه مصيرا مجهولا بعد أن كان يعدها بالرفاه وبالدفاع عنها, وهو اليوم يبحث عن التبريرات لمواقفه المخزية منها وفي ذلك عبرة لمن أراد أن يعتبر أو كان في قلبه ذرة ولاء لهذا النظام الفاشي القذر المستغل للبشرية جمعاء.
ولم تكن الثورة الايرانية التي ناصبها ذلك النظام العداء إلا أكثر إدراكا لشريته, وكانت بحكم الاحتكاك والخبرة ترى فيه الشر المطلق فلم يصدقها أحد بحكم حركة التضليل التي كان يمارسها ذلك النظام, وها هي الوقائع تثبت صدق مقولة قائد الثورة الإسلامية الإيرانية الإمام الخميني: "أمريكا هي الشيطان الأكبر".
أدرك هذه الحقيقة الشهيد القائد حسين بدر الدين الحوثي, فناصبته أمريكا العداء ودفعت النظام في صنعاء الى إعلان الحرب عليه, وخاض نظام صنعاء ستة حروب وكتب الله على إثرها التمكين للمسيرة القرآنية, وهي اليوم تواصل جهادها ضد فساد أمريكا, وسوف تنتصر أرادة الله في دفع فساد أمريكا وأدواتها في المنطقة, وقد توالت المؤشرات, وها هي أمريكا تتداعى أركانها وسوف يسقط نظامها الدولي عما قريب وسيكتب الله التمكين لعباده المؤمنين.
ثمة مؤشرات اليوم تقول أن أمراء الخليج بدأوا يفهون أبعاد اللعبة, وقد تنامى في نفوسهم الخوف بعد خذلان أمريكا لأوكرانيا, وقد يرى عقلاؤهم أن مثل ذلك ممكن الحدوث في الخليج بشكل أكبر حيث وأمريكا ترتبط بمصالح اقتصادية حيوية بأوكرانيا تتعلق بحياة مجتمعها وبحركة اقتصادها,وهي علاقة أعمق من ارتباطها بدول الخليج التي لا تتجاوز علاقتها بها مصادر الطاقة التي يمكن استبدالها وتعويضها من أي مكان وبأقل التكاليف.. لذلك فرغبة دول مجلس التعاون الخليجي في عقد جلسة مشاورات ليست أكثر من بحث عن مخرج للسعودية من مأزق اليمن الذي دفعته اليه أمريكا دفعا, وهي يقظة متأخرة لن يكتب لها النجاح إذا لم تتوفر النوايا الصادقة والشجاعة الكاملة في الاعتراف بالخطأ الذي كانوا عليه في عدوانهم على اليمن وتدمير كل مقدراته إرضاء لا سيادهم من الصهاينة والامريكان.
في اليمن قيادة سياسية وثورية واعية وقادرة على التعامل مع خيار السلام العادل وفق شروط الواقع وتطوراته في الميدان, وعلى قادة دول مجلس التعاون الخليجي أن يعوا أن خيار الاستسلام غير وارد في اليمن كما قالها لهم واضحة جلية قائد ثورتهم ومسيرتهم القرآنية المباركة.