حديث الإثنين: السياسة السعودية وأحلام الأفاعي في اليمن ( 2-2)
أشرنا في الجزء الأول من هذا المقال إلى إن حرب صيف 1994م حُسمت لصالح بقاء الوحدة اليمنية على عكس رغبة السعودية التي كانت تهدف من وراء دعمها لقيادات الحزب الاشتراكي اليمني إلى عودة الأوضاع إلى ما قبل 22 مايو 1990م
بدليل أنها أوعزت لعلي سالم البيض أن يعلن الانفصال يوم 21 مايو 1994م وقد تسبب البيض بهذا الإعلان المتسرع بهزيمة حزبه وخسارته للحرب واضعا بذلك في تاريخه الوحدوي نقطة سوداء فدخلت العلاقات اليمنية– السعودية في مرحلة متوترة وكان اليمن دائما في موقف المدافع ويبذل جهودا كبيرة لحل مشاكله مع الجارة السعودية باحثا عن جار وشقيق خال البال من قصص الغزو والتوسع الجغرافي بل إن اليمن كان يراهن على الشهامة العربية والاستجابة الصادقة لدخول البلدين في مفاوضات جادة حول مشكلة الحدود لكن كانت المفاجأة أن السعودية قامت بحشود عسكرية على مقربة من الحدود اليمنية وطلبت بكل وقاحة أن ينسحب اليمنيون من أرضهم وافتعلت أزمة وبالغت في تصعيدها إلى درجة مقلقة جعلت سوريا الشقيقة تستشعر خطورة الموقف فبعثت بنائب رئيس الجمهورية ووزير الخارجية إلى الرياض وصنعاء لاحتواء الأزمة التي كانت ستؤدي إلى مواجهة بين البلدين وقد نجحت سوريا بوساطتها في إيجاد تهدئة وإن كان الصقور حينها في النظام السعودي قد هددوا بقصف اليمن بالطائرات والصواريخ وهم يعرفون جيداً أن اليمن بلد مسالم ولا يطالب إلا بالتعايش السلمي مع جيرانه ونتيجة للتعنت السعودي فقد تحمست القيادة السياسية اليمنية آنذاك وأعلنت رسميا أنها سترفع دعوى إلى محكمة العدل الدولية لاستعادة الأراضي اليمنية المحتلة من قبل السعودية جيزان وعسير ونجران وبدأت فعلا بجمع الوثائق التي تثبت أن هذه المناطق يمنية وكنت أنا قد كُلفت مع فريق تلفزيوني من دائرة التوجيه المعنوي بالذهاب إلى حضرموت للالتقاء بمن تبقى من جيش البادية الذي أسسته بريطانيا في العهد الاستعماري بقيادة اللواء أحمد الجوهي رحمه الله وأخذ شهادتهم عن المناطق اليمنية التي كانوا يتواجدون فيها وأصبحت بعد الاستقلال محتلة من قبل السعودية وعدنا بحصيلة جيدة من المعلومات وسجلنا شهاداتهم في حلقتين أذيعتا في التلفزيون ضمن برنامج حماة الوطن فأوعزت السعودية لعملائها في اليمن للتأثير على القيادة السياسية وصرفها عن هذا التوجه المقلق للرياض فسافر الشيخ عبدالله بن حسين الأحمر للتفاهم معهم ونتج عن ذلك التوقيع على ما عُرف بمذكرة التفاهم وتشكيل لجان من الطرفين للبحث في مسألة الحدود وإن كان الهدف منها ذر الرماد في العيون وهنا تراجعت القيادة في اليمن وقبلت بتشكيل اللجان كما فعل ثوار 26سبتمبر عام 1962م حينما أصدروا بيانا بإلغاء معاهدة الطائف الحدودية وسحب اعترافهم بها لكنهم سرعان ما تراجعوا عندما احتاجوا إلى اعتراف السعودية بالنظام الجمهوري في صنعاء وإثباتا لإخلاصهم سافر عضو المجلس الجمهوري ورئيس مجلس الوزراء القاضي عبدالله الحجري عام 1974م ومعه نائبه الأستاذ محمد أحمد نعمان إلى الرياض ووقعا على تجديد معاهدة الطائف الحدودية لعشرين سنة قادمة وإن كان القاضي عبدالرحمن الإرياني رئيس المجلس الجمهوري آنذاك قد أنكر عليهما هذا التصرف من ذات نفسيهما دون تفويض من المجلس الجمهوري وطلب من القاضي الحجري تقديم استقالته بعد عودته من الرياض من رئاسة الحكومة ليحل محله الدكتور حسن مكي رحمه الله وقد دفع الحجري والنعمان الثمن غاليا حيث تم اغتيال محمد أحمد نعمان في بيروت وعبدالله الحجري في لندن أما اللجان التي تشكلت عقب حرب صيف 1994م بعد إنفراد الرئيس الأسبق وبطانته بالقرار فإنها لم تصل إلى حل بسبب تعنت الجانب السعودي وإصراره على تبعية جيزان ونجران وعسير وشرورة والوديعة للسعودية وهنا بدأ علي عبدالله صالح يقصي المعارضين من حوله ويقرب إليه من يؤيد قراراته حتى لو كانت منتهكة للسيادة اليمنية لا سيما وأنه كان محتاجاً لتأييد السعودية لتوريث الحكم في اليمن لنجله أحمد فتولى ملف الحدود عن الجانب اليمني بنفسه وعن الجانب السعودي الأمير عبدالله بن عبدالعزيز ولي العهد الملك فيما بعد فتمت الصفقة الخاسرة بالنسبة لليمن وتم التوقيع على ما عُرف باتفاقية جدة الحدودية التي اعترفت بتبعية جيزان وعسير ونجران رسميا للسعودية يوم 12 يونيو عام 2000م إلى جانب شرورة والوديعة وجزء كبير من الربع الخالي وهو ما لم يوافق عليه من قبل أي حاكم يمني سابق سواءً في العهد الملكي أو الجمهوري وحتى الإمام محمد البدر الذي كان بحاجة للدعم السعودي لاستعادة عرشه رفض أن يعترف للسعودية بتبعية المناطق اليمنية جيزان ونجران وعسير وقال للملك فيصل بالحرف الواحد عندما طلب منه التوقيع مقابل مواصلة الدعم لإسقاط صنعاء أثناء الحصار: تقطع يدي يا فيصل لو وقعت لك حرفاً واحداً، ومن المفارقات العجيبة أن الرئيس الأسبق علي عبدالله صالح بعد عدة سنوات من بيع المناطق اليمنية لم يطل لا بلح الشام ولا عنب اليمن فقد خسر نظامه وخسر نفسه وكانت السعودية أول من تخلى عنه وشنت عدوانا على اليمن وشعبه مستعينة بتحالف دولي بهدف إضعاف اليمن وقضم المزيد من أراضيه وما احتلالها اليوم لحضرموت والمهرة وإصرارها على البقاء فيهما بالقوة إلا نتيجة لخنوع النظام السابق وانبطاحه لها ولكن رجال الرجال سيظلون لها بالمرصاد ولن يمكنوها من تحقيق أهدافها الشريرة مهما بلغت التضحيات وسيعود اليمن حرا رافعا راية سيادته واستقلاله.