
بوح اليراع: من الواجب تلمُّسُ هموم الطالب
من المفترض أن المهنة التعليمية مهنةٌ بل رسالةٌ إنسانية، إذ لا يمكن أن تتجلى فيها الملامح التربوية إلاُّ إذا لمس التلميذ من المعلمة والمعلم قدرًا من المشاعر الأموميَّة والأبويَّة التي تشعره بحالة من الدفء الأسري الذي يُحبِّب إليه الصرح التعليمي، فيُقبل على التعلُّم بنهم جَمّ.
لكن كثيرًا من أصحاب هذه المهنة الرسالية يبذلون جهودًا مضنيةً من أجل حشو عقول الطلاب بالمعلومات التي قد لا يكتب لها في أذهان بعضهم الثبات، مهملين -إلى حدٍّ كبير- الشق الأهم من العملية التربوية المتمثل في التعامل مع الطالب بقدرٍ من الحميميَّة التي تمكنَّه من تلمُّس همومه، والاضطلاع بدور ما للإسهام -وبالشكل التربوي اللائق- في تذليل ما يعترض مشواره التعليمي من العوائق.
ولعل معظم أبنائنا الطلاب في اليمن قد باتوا -في ظروف البلاد الآنيَّة- أشدَّ حاجةً إلى المعاملة التربوية الحانية.
وقد استهواني مشهد تربوي يرويه لنا -بكل عفويَّةٍ- أحد شخصياته المحورية بطريقةٍ تنمُّ عن اعتراف ضمني بلا تربوية معظم المدراء والهيئات الإداريَّة المدرسيَّة.
ولأنني لم أتمالك نفسي -أثناء قراءته- عن البكاء، فقد ارتأيت أن من الأجدى أن أضعه بين يدي أعزائي القراء.
روى أحد مديري المدارس الحكوميَّة قصَّةً تربويةً واقعيةً أوردها في السطور التالية:
(كنت-عادةً- أراقب الطلاب في الفترة المسائية في الطابور، وبعد دخولهم الفصول أعاقب المتأخرين الذين يقدرون -غالبًا- بثلاثة أو أربعة، ثم أسمح لهم بالالتحاق ببقية زملائهم في فصولهم.
وقد لفت انتباهي أن طالبًا بعينه يكون أحد هؤلاء الطلاب المتأخرين بشكل يومي خلافًا لبقية الطلاب الذين لا يتأخر الواحد منهم -بالعادة- إلا لظرف طارئ، فكنت حين أعاقب ذلك الطالب بالعصا التي أقرأ على وجهه علامات الأسى والحزن!! لكنه يتقبَّل العقوبة بصمت وينصرف إلى فصله!!
واستمر الوضع على هذه الحالة أيامًا، وأنا أقلِّب -خلالها- الأمر في رأسي: أيُّ طالب عنيد هذا!؟ وأيَّة عقلية يحملها!؟ كيف يكون حزينًا وهو يتلقى العقوبة، ولا يسعى ليغير من حاله ويحضر إلى المدرسة في الموعد المحدد!؟
ومع هذا قررت أن أستمر في منهجي نحوه، «تأخير=عقوبة»، حتى يعدِّل من سلوكه، ومضت عدة أيام أُخَر على هذا الحال دون أي تغيير، إلى أن قررت أن أخذ زمام المبادرة لحل المشكلة، فاستوقفته ذات يوم قبل أن أعاقبه؛ وسحبته من يده إلى مكتبي وسألته: يا بُنَي لماذا تتأخر كل يوم؟ لماذا لا تحضر مثل بقية الطلاب قبل الطابور المدرسي؟! إذا كانت العقوبة تؤثر في نفسك هكذا، لماذا لا تُغيِّر من سلوكك؟
سكت الطالب برهة وهو يطرق بنظراته إلى الأرض، ثم أجاب على استحياء: يا أستاذ أنا لا أتأخر بإرادتي، ولكن ظروفنا المالية في المنزل قاسية ووالدي عاطل عن العمل، وأنا وأخي لا نملك إلا قميصًا مدرسيًّا واحدًا يرتديه هو أثناء ذهابه إلى المدرسة في الفترة الصباحية، وأنا أنتظر عودته على باب المنزل بفارغ الصبر لآخذه منه وأرتديه وأحضر إلى المدرسة، وهذا سبب تأخري كل يوم، ومع هذا فأنت تعاقبني وأنا لا أستطيع الاعتراض، لأني حريص على الدراسة برغم ضيق حالنا.
حينها أظلمت الدنيا أمامي لم أعد أرى أو أسمع شيئًا، وأحسست أن الزمن توقف عند هذه اللحظة؛ وفقدت القدرة على الكلام والتفكير سوى شريط الذكريات وأنا أعاقبه بالعصا على يديه على مدى تلك الأيام وهو يتألم من الضرب فلا يعترض ولا يشكو الظروف حفظًا لماء الوجه.
نزلت كلمات الطالب على مسامعي كأنها ضرب بسياط القهر والأسى، ولم أستطع أن أتمالك نفسي واندفعت الدموع من عيني بصمت، فسألته -وصوتي يتحشرج في حنجرتي وكلماتي لا تطاوعني للخروج من فمي-: لماذا لم تخبرني بذلك يا بني؟
أجاب -وهو يطرق بناظريه إلى الأرض-: أنت لم تسألني عن سبب تأخُّري، بل كنت تعاقبني فقط.
عندئذ فقط أدركت فداحة ما اقترفته، فأخذته من يده إلى فصله، وطلبت منه عند انتهاء الحصص المدرسية أن يحضر إلى مكتبي، وانصرفت.
وفي نهاية اليوم الدراسي حضر إليّ كما وعدني وأخذته معي في جولة إلى السوق واشتريت له قميصًا مدرسيًّا جديدًا، فكم كانت فرحته بهذا القميص!! لعلها تضاهي فرحته في اجتياز امتحان آخر العام الدراسي!!
واتجه إلى منزله مسرورًا، ومن ذلك اليوم الحاسم لم أشاهده إلا في مقدمة الطابور المدرسي منتشيًا بهذا الإنجاز.فكانت هذه الحادثة مفصلاً هامًّا في مسار نهجي التعليمي والتربوي؛ فقد أدركت معها أنَّ على المعلم والمربي المثالي أن يكون أولا أبًا لطلابه قبل أن يكون مدرسًا، وعليه أن يشعر بهم، ويناقش آلامهم، وأوجاعهم، قبل أن يصدر عليهم أحكامه الصارمة التي قد تكون -من حيثُ لا يعلم- ظالمة).