كتابات | آراء

الفهم الدلالي المغلوط لـ«المسؤولية»

الفهم الدلالي المغلوط لـ«المسؤولية»

لفظا «المسؤول»، و«المسؤولية» الأكثر تداوُلًا بيننا واللذان يطرقان مسامعنا صباح مساء اكتسبا -بسبب غبائنا النَّخبَوي والشَّعبَوي العربي المركب- معنى مُغايرًا -تمامًا- لمعناهما الحقيقي،

وكادا -نتيجة تحميلنا إياهما مدلولات عرفية- يتنافيان -كما سنوضح- حتى مع صيغتهما الاشتقاقية الصرفية،  فهما -بحسب تصنيف علماء اللغة الفحول- (اسم مفعول، ومصدرٌ مشتقٌ منهُ فعلٌ مبنيٌّ للمجهول)، وبالاستناد إلى ذلك فإن «المسؤول» يُصبح -نتيجة ما يُسنَد إليه من مسؤولية -من منطلق صيغتيهما الصرفية- عُرْضَةً لمساءلة كلِّ الذين ولي أمرًا من أمُور حياتهم، وعُرْضَةً لانتقاداتهم على ما يُرافق أدائهِ الوظيفي من خلل أو تقصير، وعلى ما يعتري وصول الخدماتِ العامَّة إليهم من تعثُّرٍ أو تأخير، وقلَّما يَعْتَدُّ جمهورُ المنتقدين الغفير بما يلجأ إليه المسؤولُ المعنيُّ بالأمر من تبرير.
ولعل هذا المفهوم عن المسؤولية والمسؤولين هو السائد -على وجه العموم- في جميع أنحاء العالم -من مغارب أمريكا إلى مشارق الصين-، باستثناء مسؤولي وطواغيت وأساطين الفساد من حُكَّام العرب والمسلمين، إذْ ما أكثر ما نُشاهدُ أو نسمع أو نقرأ من الأخبار التي تُذاع أو تُنشر -من وقت إلى آخر، وكما جرت العادة- عن انتقادات جماهيرية شعبية حادَّة توجّهُ -في هذا القُطر أو ذاك- نحو مسؤولين محليين اعتباريين على مستوى وزراء وأحيانًا على مستوى رؤساء حكومات وفي بعض الأحيان تطال الانتقادات –دون تردُّدٍ أو خوفٍ أو وجل- ملوكًا أو سلاطين أو رؤساء دول، وغالبًا ما تجِدُ لها تلك الانتقادات -حتى وإن كانت نبراتها حادَّة أو قاسية- من المؤسسات الدستورية والسلطات القضائية والتشريعية والتنفيذية آذانًا صاغية وأفئدة واعية تحمل تلك الانتقادات -وإن كان المنتقدِون محدودي العدد- على محمل الجدِّ حريصةً كلَّ الحرص على التعامُل مع مواطنيها بمختلف طبقاتهم الاجتماعية ومراكزهم الوظيفية على قدم المساواة وبشكل إنساني لائق، ثمَّ لا تجِدُ تلك الأجهزة والمؤسسات حرَجًا عن اتّباع المشروع من الوسائل والطرائق التي تُمكِّنها من تحرِّي الحقائق حول تلك التهم الجماهيرية التي وجهت ضد شخصيات حكومية اعتبارية، فإن ثبتتْ عليهم التهمُ الموجهةُ إليهم -وبالأدلة- أحِيلوا لمحاكمة عادلة دون حدوث أيّة بلابل أو مشاكل، وبما يُفضي بهم إلى نيلِ جزائهم العادل، وإن تمكَّن المسؤولون الحكوميون من إثبات براءتهم من التهم المنسوبة والتدليلَ على أنها بُنيتْ على معلوماتٍ مضللةٍ ومكذوبة، أُعلنت براءتهم -بواسطة أجهزة القضاء- على الملأ، وذلك بالتوازي مع إيضاح الحقيقة لجمهور المنتقدِين البسطاء وبكُلِّ جلاء، وبما يُعزز من قِيَمِ الشفافية ويَحِدُّ من تفشِّي آفة الفساد، وبما يُسهم في ترشيد لغة الإعلام، وبما يحول دون نهب المال العام واستغلال النفوذ الوظيفي بشكل نهائي.
ولعلّنا ما نزال نتذكّر ما تعرَّض له الصهيوني  المدعو «أيهود أولمرت» -في أواخر فترة ترؤسه حكومة الكيان الصهيوني المُحتل- من انتقادات حادَّة لمجرد الاشتباه بتلقيهِ دعمًا ماليًّا من رجل أعمال صهيوني-أمريكي بالتزامن مع إجراء انتخابات كان «أولمرت» طرفًا فيها، فقد اعتبر المنتقدِون ذلك الدعم رشوةً من شأنها التأثير على نزاهة الانتخابات بكل ما قد يترتب على عدم نزاهتها من ضرر، والإسهام في تزييف إرادة الناخب من جانب آخر.
أما في عالمنا الإسلامي وفي الأقطار العربية على وجه الخصوص، فقد اكتسب لفظا «المسؤول» و«المسؤولية» دلالتين مغايرتين لمدلوهما الصرفي بشكلٍ كلِّي، انسحب ذلك الخطأ الدلالي على الممارسات الإدارية في الواقع العملي، فما إن تُسند إلى المسؤول مسؤولية ما، حتى يبدأ يتوهّم من جانبه -كما يظن عامَّة الناس به- أنَّهُ قد اكتسب -بما أسند إليه من مسؤولية- نوعًا من القداسة وأنَّهُ قد بات -فور توليه مسؤولية إدارة أي مرفق- في حُكم المالك المُتصرِّف في كلِّ ما يقع في نطاق مسؤوليته، وأنَّهُ غدا صاحب النفوذٍ الكامل والمُطلق، متوهّمًا خطأ أنَّهُ بات في مأمنٍ تام من المُساءلة ومن أن تطاله يَدُ العدالة بشكلٍ عام.

أخبار الجبهات

وسيبقى نبض قلبي يمنيا
لن ترى الدنيا على أرضي وصيا