بوح اليراع: شعب السودان بين المطرقة والسندان
ليس بمُستغربٍ ما تعمد إليه السلطات الأمريكية من خطوات تكتيكية للإطاحة بالخصوم الذين تمثل سياساتهم على المدى الطويل خطرًا محتملاً على مستقبل الكيان الاحتلالي الدخيل
المسمى "إسرائيل"، إذ غالبًا ما تتهمهم بحيازة أو تصنيع أسلحة محرمة من شأنها تهديد الجيران، وبحكم شعوبهم بأساليب قمعية تمثل انتهاكًا لحقوق الإنسان، فتُسهم التهمة الأولى بتسميم علاقتهم ببعض دول الجوار، بينما تُسهم الثانية في مُفاقمة الأزمات الداخلية والوصول بها إلى حافَّة الانفجار، ولعل ما حصل في السودان أحدث الأمثلة على ما نقوله.
فلم يكن نظام الرئيس المخلوع عمر البشير يمتلك الإمكانيات المالية والخبرات الفنية التي تمكنه من إنتاج الأسلحة التقليدية، فضلاً عن إنتاج الأسلحة المحرمة التي يتطلب إنتاجها إمكانيات مالية هائلة وخبرات فنية متقدمة، ومع ذلك قُصفَ مصنع الشفاء للأدوية -في 20أغسطس 1988م- بـ79 صاروخ كروز، بعد أن اعتبره الرئيس الأمريكي "بيل كلينتون" -من وجهة نظره- منشأة صناعية عسكرية تنتج أسلحة كيميائية خطرة.
ومن ناحية ثانية لم يكن نظام البشير بدعًا بين أنظمة الحكم العربية في ممارسة الأساليب القمعية ضد الجماهير العربية المقهورة بأكثر من صورة.
وفي ضوء ما سبق يتأكد لنا أن رمي البشير بتينكَ التهمتين مجرد ذريعة واهية لإمطاره بالعقوبات المتوالية التي تسببت بإضعاف نظامه ومن ثم إزاحته عن المشهد السياسي، كونه من الشخصيات المحسوبة على الإسلام السياسي الذي يعتبره البيت الأبيض الحريص على صهينة المنطقة العربية بشكلٍ سريع حجر عثرةٍ في طريق التطبيع الذي من شأنه تبديد آخر ما يراود الشعب الفلسطيني من آمال بأيِّ مستوى من الاستقلال.
تطبيع مجلس السيادة المنقوص السيادة
لم يكن يخفى على المراقب لمجريات أحداث الثورة على البشير تعرُّضُ السودان الشقيق لتدخل عبثي خليجي بهدف جره إلى مستنقع التطبيع مع الصهاينة بشكل تدريجي، بيد أن (مجلس اللا سيادة) الذي ما يزال يترأسه إلى حد الآن رمز العمالة والامتهان المدعو"عبدالفتاح البرهان" الذي يدين بالتبعية لـ"آل سعود" و"آل نهيان" كان أطوع من المتوقع، إذ لم يكد يصل إلى حالة من التموضع على كرسي الرئاسة المؤقت حتى سارع إلى الارتماء المعلن في أحضان طليعة المطبعين العميل الإماراتي محمد بن زايد كي يُلحقه -وبأقصى ما يمكن من سرعة- في ركاب الأنظمة "اللاعربية" المطبعة، لتكون السودان -إذا ما أخذنا في الحسبان الخطوات التطبيعية لسلطنة عُمان- هي الضحيَّة الرابعة.
خنوعٌ بلا تحفُّظات واستمرار العقوبات
لعل إيهام العميل المُهان "عبدالفتاح البرهان" بسرعة رفع العقوبات المفروضة -منذ عقود عدَّة- على بلده يقف وراء فقدانه رشده والتحرك بتسرع جنوني لتوقيع اتفاقية تطبيع مع الكيان الصهيوني وكله تفاؤل أن توقيع ذلك الاتفاق المُذل سيعقبُه رفع العقوبات المفروضة على السودان بشكل كامل، بل لقد ذهب به التفاؤل إلى أبعد من ذلك، إذ توهَّم أن تُغدق عليه أمريكا -مكافأةً منها على توقيعه تلك الاتفاقية- الكثير من المساعدات التي تمكنه -بالإضافة إلى تحسين اقتصاد البلاد بصفةٍ عامة- من تزوير أيَّة انتخابات قادمة.
إلاَّ أن ما قابل خطوته التطبيعيَّة من ردود فعل الجماهير الغاضبة قد حمل أمريكا والكيان الصهيوني -على حدٍّ سواء- على الاستخفاف به، معتبرين إياه مجرد جنرالٍ غبي مفتقرٍ إلى الحدِّ الأدنى من الرصيد الجماهيري الشعبي، فأبقيا العقوبات المفروضة على بلاده على حالها متخذين من نظامه كوَّةَ يخترقان الجماهير السودانية -كما سيتبيَّن- من خلالها.
تعرُّض الشعب السوداني للتطبيع الميداني
إن خيبة أمل سلطات الكيان في الاتفاقية التي وقعتها مع "البرهان" التي قُوبلت بسخطٍ جماهيري لم يكن لها في الحسبان قد ألجأها -بهدف التطبيع مع جماهير الشعب السوداني- إلى العمل التطبيعي الميداني، فقد اتخذ الصهاينة من ذلك الاتفاق مجرد ذريعة لتحقيق ما يحتاجونه من اختراق، فها هي الصهيونية العالمية قد دفعت بفلذات أكبادها من الحاخامات الأكثر قدرةً على الإقناع إلى التوغل في أوساط الشعب السوداني وإقامة ملتقيات يزعمونها دينية، لكنها -في حقيقة الأمر- فعاليات ماسونية تُروِّج للتطبيع مع الدولة الصهيونية، وفي هذا الصدد فقد أورد الكاتب الصحفي "عماد عنان" -في تقرير خبري نشره يوم الأحد الـ7 من فبراير الجاري في موقع "نون بوست"- ما نصه: (لقد أثار الملتقى الديني الذي عقد بفندق "كورينثيا" بالخرطوم، أمس السبت الـ6 من فبراير 2020، بمشاركة "حاخامات" يهود من بعض بلدان العالم، حالة من الجدل داخل الشارع السوداني، الذي اعتبر مثل هذه الملتقيات محاولة لتمرير التطبيع الشعبي وفرض الأمر الواقع).
وقد دخل هؤلاء "الحاخامات" على أكتاف العملاء الذين اتضح تواطؤهم بجلاء في احتواء التقرير على: (ويهدف الملتقى -بحسب منظمه النائب البرلماني السابق "أبو القاسم برطم" أحد دعاة التطبيع مع "إسرائيل"- إلى تعزيز التسامح والسلم الاجتماعي في البلاد، بينما تخللته مداخلتان إسفيريتان من قسيس نرويجي وحاخام من "تل أبيب" لمدة دقيقتين).
بيد أن هذه الوسيلة الترويجية المرذولة كانت وما زالت وستظل مرفوضة في أوساط الشعب السوداني وغير مقبولة، وليس أدل على ذلك من رفضها من المؤسسات الرسمية السودانية التي يُفترض خضوعها للعميل "البرهان" الذي هو -فعليًّا- رأس الدولة، فقد جاء في تقرير "عنان" الإخباري: (أما وزارة الشؤون الدينية والأوقاف السودانية فقد نفت علمها المُسبق بجدول أعمال هذا الملتقى رغم توجيه دعوة رسمية للوزير لحضوره، لافتةً في بيان لها أنها فوجئت بوجود اسم وزيرها ضمن البرنامج قبل إعطاء الموافقة، وأنها لم تكن جزءًا من التخطيط والتنسيق للفعالية)، وكأن الوزير -شأنه شأن معظم الكادر الوظيفي العامل في وزارته- غير قابل للتمرغ في وحل الفعاليات العمالية الحاليَّة والمستقبليَّة.
ومن المحتمل أن الشعب السوداني البطل سيظل -في ظل حكم العسكر الجبري- واقعًا -من حيث لا يدري- بين سندان العقوبات ومطرقة التطبيع القسري.