
الأمة بين صنَّاع الأزمات وثقافة الحروب..!!
إذا أردنا أمةً مبدعةً وشعوباً راقيةً لابد من الاهتمام بالقامات والهامات العلمية والأكاديمية والثقافية والأدبية وتحرير الفكر والإبداع من أية وصاية أو رقابة لكي يبدع المبدعون، ويتنافس المتنافسون وأي أمةٍ من الأمم لا تسود فيها روح الحريات، وتلاقح الرؤى والأفكار تظل في دائرة التقوقع والانحسار، وتصبح أمة خواء..
لذا لابد من أن تكون ثقافة الأمة قائمة على تقبل ثقافة الآخرين دون تعصب أو كراهية لكي يستمر قطار الحياة من مرفاً إلى أخر بسلام وأمان، وجاء في المرويات الحياتية أنه سمع رجلٌ رجلاً آخر يقول: أين الزاهدون في الدنيا الراغبون في الآخرة..؟ فقال له: اعكس كلامك وضع يدك على مَنْ شئت..
فالأمة اليوم تمر بظرفٍ عصيب ورهيب إنها مرحلة نكوص في التاريخ، وعودة إلى الوراء وما تشهده المنطقة العربية من تشظي وتناحر وتنافر شيء لا يُطاق إنها صرخة القهر التاريخي المتراكم مُنذ سنوات، هي العاصفة الهوجاء التي تدمر كل شيء، شعارات هراء وخواء تدخل قاموس المصطلحات السياسية الدولية ورحاها تطحن كل شيء جميل ورائع في هذه الحياة.
وفي ظل سقوط الأيديولوجيات القديمة، وصعود تيارات مغايرة أصبح العالم أمام فراغ أيديولوجي وفكري جديد وخطير في آن واحد، مازال العالم يعيش آثاره السلبية حتى الآن وكما نعلم أن مصطلح الديمقراطية ليست ديناً سماوياً ولا أيقونة مقدسة، بل مجرد آلية أو مشروع للحكم، ويمكن أن يفوز بها أياً كان عسكرياً أو مدنياً أو علمانياً أو إرهابياً، وهذا هو الحاصل اليوم في عالمنا المعاصر، وخير دليل على ذلك فوز ترمب كرئيس للولايات المتحدة رغم سمعته السيئة وتاريخه الأسود، لكن الشعب هو صاحب القرار، وقد علمتنا التجارب والسياسات والأوضاع التاريخية والموضوعية والحياتية أن الشعوب مازالت تعيش مرحلة الطفولة المبكرة، ولعل ما يحدث الآن من مآسٍ ومجازر في الوطن العربي تحت راية الفوضى الخلاقة لإعادة تقسيم المنطقة العربية جغرافياً، وهذا ما سيهدد تاريخنا وهويتناً بالانهيار والتشويه ولآت حين مهرب.
فالعالم اليوم يضيق بالهجرات المشروعة وغير المشروعة، وأي اختلال في موازين القوى ستدفع الأمة وشعوب العالم ثمنه باهظاً.. لذا علينا أنْ ننأى بكل خلافاتنا الماضوية وما فيها من سلبيات ومساوئ وجراح وآلام لتوحيد الصف العربي من أقصاه إلى أقصاه قبل فوات الأوان، فما تعيشه الأمة اليوم من مشاحنات فكرية ومماحكات سياسية وصراعات عرقية هي نتاج لتلك التراكمات التاريخية المتشظية.. فالمشكلة الحقيقية التي تعاني منها شعوب المنطقة اليوم تكمن في عوامل الكبح، وعدم تكيفها مع روح العصر الحديث.. فالسلطة الاستبدادية ليست مجرد حالة عابرة من الحكم غير الرشيد، وإنما هي ثقافة مناقضة لروح العصر ومتطلباته ومستجداته.. لذا لابد من الاستجابة لحاجات المجتمع المتولدة من روح العصر.
صفوة القول:
كلنا نتأمل ونتساءل: لماذا لا نتصالح مع الذات، ومع الواقع وألَّا نعيش حياة سلبية تجاه العالم؟! فالإجابة قد تكون عدواً للسؤال إذا هيمنت ثقافة الاستبداد والقمع وتكميم الأفواه، وعندما ينهزم السؤال يعلن العقل احتجابه، والتاريخ ركوده، والفكر هروبه، وتصبح ثقافة الأجوبة الجاهزة والمعلبة هي الطاغية وموت الإنسان سريرياً وتتحول الحياة إلى سجن مؤبد، لآنّ ثقافة الغلو والتعصب الأعمى تقتل ثقافة الإبداع والتألق، وهنا تصبح ثقافة الأجوبة الجاهزية شعار الشعوب المغلوبة على أمرها.. والمؤسف المُعيب أنَّ معظم الأنظمة العربية تحاول تزييف وتحريف تاريخ ثورات ونضالات شعوبها، وتحاول كسب ودها بالوعود الجوفاء، ثم بعد ذلك تعد العدة للانقضاض عليها، وعلى كل السياسات التحررية الداعية للتحرر والحرية والإرادة الوطنية، وفرض اليد الحديدية بقوة السلاح، وكل شيء سيكون في يد عناصر أمن الدولة حفاظاً على أمن واستقرار البلاد.
كلنا ندرك أنَّ السياسة لعبة قذرة.. هكذا نعتها من عرفوها وعايشوها وعاصروها، لكن أحياناً تكون أقرب إلى النظافة منها إلى القذارة، وأقرب إلى الواقع إذا صاحبها الجانب الأخلاقي والإنساني وقلما يكون.
كلمات مضيئة:
كلنا نُدرك أن أكبر الهجرات العربية والنزوح القسري من قطر إلى آخر كان في عهد العصر العثماني بسبب جور وطغيان وظلم وسياسة العثمانيين الرعناء، وفرض الضرائب الباهظة لدرجة أنها كانت تعلق المشانق في الشوارع العامة للترهيب والتهديد والوعيد.. والشيء العجيب والغريب أن الأتراك لم يأتوا بجديد أي لم يحملوا معهم مشروعاً حضارياً راقياً، بل حملوا مشروعاً أساء لجوهر الرسالة الإسلامية الخالدة، وللأسف الشديد لقد مارس العثمانيون كل صنوف العذاب والتنكيل والويل والقمع باسم الدين "الخلافة الإسلامية" التي لم تحمل من الدين سوى اسمها ورسمها فقط، فالتاريخ هو ذاكرة الشعوب، وما أشبه الليلة بالبارحة، فاليوم وسائل الإعلام التركية تتباهى وتتغنى بمستقبل العلاقات العربية- التركية وكأن التاريخ عبارة عن أحداث ووقائع قد ولى زمنها، وأصبحت أثراً بعد عين، لذا على الأمة العربية أنْ تعيد قراءة وفحص التاريخ من جديد، فأوراق التاريخ السوداء تظل سوداء مدى الزمن فالمأساة تظل محفورةً في ذاكرة الشعوب إلى أن يرث الله الأرض ومنْ عليها.
فالذين استغلوا الدين استغلالاً سيئاً وعكسياً لخدمة أغراضهم الدنيوية أو الفكرية وتخدير الشعوب باسم الدين سيدفعون الثمن باهظاً ومضاعفاً عاجلاً أو أجلاً، فالتاريخ كلما مرت عليه السنون والقرون يزداد تألقاً وزهواً وسطوعاً.