
حكاية شهيد
يظل الجهاد في سبيل الله باب الله الذي فتحه لخاصة عباده وأصفيائه وأوليائه وأحبائه، وكما فضّل الله المجاهدين على القاعدين درجة، فكذلك فضّل الله السابقين الذين اُستُنْفِروا فنفروا وسمعوا داعي الله والجهاد فاستجابوا وتقدموا الصفوف الأولى في ميادين المواجهة،
فقاتلوا أعداء الله فما وهنوا وما ضعفوا وما استكانوا، فنالوا من أعداء الله قتلاً وتنكيلاً حتى اتخذ الله منهم شهداء، فاجتباهم برحمته ومحبته كرماء.
إنهم لم يفرطوا وما قُتِلوا مظلومين لما بَرَزَ إليهم القتل حتى لا يخسروا الوسام الأعلى من ربهم.. فهم أولئك الذين اشترى الله منهم أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة، شريطة أن يقاتلوا في سبيل الله فيَقتُلون ويُقتَلون، وعدًا عليه حقًا في التوراة والإنجيل والقرآن، ومن أوفى بعهده من الله، وهنالك استبشروا بهذا البيع واستجابوا لله ورسوله وأوليائه، فاستأهلوا من الله الأعلى وسامًا وأعظم الدرجات والمقامات، وفازوا بالحياة السرمدية الخالدة والنعيم الأبدي برفقة الأنبياء والمرسلين والشهداء والصديقين، وحَسُن أولئك رفيقًا.
في زمن ما قبل العدوان الإجرامي - الصهيوأمريكي البريطاني - السافر على بلدنا، والذي شنته قوى العدوان بأيدٍ أعرابية قذرة، كان أبو يحيى جنديًا نظاميًا في الجيش اليمني. في معسكرات الجيش، تلقى تدريباته واكتسب خبراته التي ساهمت في رفع قدراته القتالية، وصقل موهبته العجيبة في القنص التي كان لها الأثر الأكبر في صدِّ زحوف الأعداء.
وحالما بدأ العدوان عملياته الإجرامية والعدوانية على بلدنا، استشعر أبو يحيى مسؤوليته الدينية والوطنية والأخلاقية والإنسانية، فانطلق مع المجاهدين الأوائل إلى ساحات الوغى وميادين القتال والمواجهة. وكانت الجحملية ميدان المواجهة الأول الذي لقن فيه الأعداء دروسًا لن ينسوها، وقاتلهم ونكل بهم شر تنكيل.
فلما أحدق الخطر بالصراري، قريته التي وُلِدَ ونشأ وترعرع فيها، انطلق إليها فانضم إلى جانب الأبطال الشرفاء بعد أن كان مُلاحَقًا من مرتزقة ومنافقي العدوان الذين أرخصوا أنفسهم لأعداء الله لقاء الفتات من المال المدنس، فاستخدمهم الشيطان الأكبر كأدوات رخيصة لمواجهة وقتال إخوانهم وأبناء بلدهم وشرفاء اليمن وأبطالها الأخيار الأحرار خدمةً للمشروع الصهيوني في المنطقة.
وعلى الرغم من كونه مُلاحقا إلا أن بطل حكايتنا ما كان ليخشاهم أو يحسب حساب لكيدهم ومكرهم، أو يخافهم، فكان يتنقل بين القرية ومدينة تعز للقيام بالمهام الموكلة إليه.
وفي إحدى المرات، وأثناء مروره في مناطق سيطر عليها الدواعش والمنافقون مؤخراً، وجد نفسه محاصراً منهم وغير قادر على مواصلة السير أو العودة بسلام إلى القرية. حينها تدبر أمره ولجأ إلى كهف صغير آوى إليه وظل فيه أياماً حتى ظن إخوته المجاهدون الأبطال في الصراري أنه تعرض للأسر أو القتل من قبل المنافقين. وفي اليوم الثالث، تفاجأ الأبطال بعودته، ولما أخبرهم بحكايته، وقفوا أمام شجاعته وبطولته وحكمته في تصرفه بإكبار وإعجاب وذهول ودهشة ممتزجة بفرحة غامرة بعودته سالماً بفضل الله. وفي الصراري كانت الأحداث تتسارع متجهة نحو التصعيد، والأوضاع تزداد سوءاً، والحصار يشتد عليهم، كون الأعداء يصعدون من اعتداءاتهم واستهداف القرية من حين لآخر ويتقطعون لأبناء الأسرة في الطرقات، وهم بذلك يقرعون طبول الحرب ويستعدون لشن عدوان سافر على القرية، خاصة وأنهم يحيطون بالقرية من كل الجهات. والحقيقة أنه لم يكن لدى الأبطال الشجعان سوى سلاحهم الشخصي - الكلاشينكوف - كما هو شأن كل يمني، بالإضافة إلى معدل شيكي وحيد.
وعلى قلتهم، كان لهؤلاء الشباب والأشبال عزيمة وإيمان وثقة بالله وتوكل عليه، وفي الوقت نفسه كانوا يتحلون بشجاعة منقطعة النظير. وبهذا الإيمان والشجاعة المرتبطة بالله، سطروا أعظم الملاحم بثبات وصمود أمام مئات المرتزقة والمنافقين وما يمتلكون من أسلحة فتاكة وعتاد متنوع وكثير وحديث. ولم يكن أمام بطل حكايتنا سوى استلام مهمة حماية ظهر المجاهدين الأبطال المقاتلين في الصفوف الأمامية من الشهيد مصطفى محمد عبد الكريم الجنيد، واستخدام ذلك المعدل اليتيم في صد الزحوف. وبفضل الله، تمكن بهذا المعدل من استهداف الزحوفات المتعددة من جهات مختلفة، وبحكم مهارته الفائقة في القنص، أضحى المتحكم في إدارة المعركة بأكملها.
ولكونه الشخص الوحيد القائم على المعدل، كان يصل الليل بالنهار فلا يجد الوقت للراحة والنوم سوى القليل من الوقت. ولما شعر المنافقون والمرتزقة بعجزهم عن مواصلة زحوفهم بسبب الغطاء الناري المفروض من قبل أبي يحيى، أدركوا خطر هذا المجاهد المتمكن الماهر في القنص واستخدام المعدل بذكاء وحنكة ومهارة عالية، فبدأوا يخططون لاستهدافه، ولكنه كان من الذكاء والحكمة والفطنة بحيث لم يكن يستهدفهم من مكان واحد، بل كان يتنقل من مكان إلى آخر رغم الوزن الثقيل للمعدل حتى لا يترك للأعداء فرصة النيل منه وقتله أو مجالًا لاستهدافه من جانب، ودرء المشاكل التي حاول البعض إحداثها كلما اقترب من منازلهم خوفًا على أنفسهم، حتى بلغ به الأمر أن يتخذ من جوار منزله مترسًا وموقعًا استراتيجيًا لصد الأعداء مستغلًا الأشجار الكثيفة التي أسهمت في التمويه على العدو. وفي اليوم المعلوم - ومن بعد أن أبلى بلاءً حسنًا في المواجهة غير المتكافئة، ولم تهون على الأبطال فضاعتها إلا مظلوميتهم الكبيرة وإدراكهم ويقينهم أنهم على الحق وأنهم يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم.
وفي ذلك اليوم، أدرك أنه سيرتقي إلى الحياة العليا شهيدًا حيًا إلى جوار الله - سبحانه وتعالى -. وعند الصباح، توجه بكل سعادة وطمأنينة إلى سائلة شمهان حيث غيول الماء، فاستحم ولبس الجديد وتطيب وكأنه يتهيأ لعرسه. ولم يكن الآخرون يعلمون أنه يستعد للقاء الله ورسوله وأنبيائه وأوليائه، لكنه كان يجيب على كل من التقاه وسألوه باستغراب: "ما بالك يا أبا يحيى قد اغتسلت وتزينت وتطيبت وكأنك تتهيأ للحظة زفافك؟". فيجيبهم من فوره: "أجل، حان موعد زفافي إلى العلياء وأتهيأ لأنني سأرتقي اليوم شهيدًا". ثم يختم بالقول: "أستودعكم الله". وبعد عودته إلى منزله، صلى الظهر وتناول طعام الغداء وبدأ يتناول القات الذي قطفه من مزرعته، وقد اعتلى معدله وإلى جانبه سلاحه الشخصي (الكلاشينكوف)، ويراقب الأعداء ويترقب اللحظة التي يتقدمون فيها ويزحفون ليباشرهم بالقنص وينكل بهم كما في كل زحف، فيردهم على أدبارهم خائبين خاسئين. وقبل غروب الشمس كان موعد الشهادة، وكأني به يقول للشمس: "تريثي قليلاً حتى أقضي نحبي وأسبقك متوجهًا إلى العلياء". وقتئذٍ كان أعداء الله يتربصون به بعد أن استقدموا قنّاصًا ماهرًا ليستهدف القائد الشهيد.ليستهدف الهامة الجهادية البطل (أبا يحيى) علوي بن عبد الله بن عبد الغني بن عبد الوارث الجنيد - رحمه الله - حيث استهدفه العدو بقذيفة أردته قتيلاً من فوره، فارتقى على إثرها شهيدًا إلى جوار الله.. فهنيئًا لأبي يحيى كرامة الله وحسن الخاتمة بالشهادة ونيل الوسام والقلادة.
وأخيرًا، نال بطل حكايتنا الشهادة والسعادة، وخصه الله الأعلى بالوفادة، فلحق بركب الشهداء الأحياء عند ربهم يرزقون، وعقب استشهاده تمكن المنافقون والمرتزقة من اقتحام الصراري وتهجير أهلها قسرًا وارتكاب الجرائم التي يندى لها جبين الإنسانية.
وهنيئًا لعلوي الشهادة التي نالها وهو في خضم المواجهة المحتدمة يقاتل ويواجه ويدافع حتى آخر لحظات حياته وآخر طلقات سلاحه.
وسلام الله ورحمته وبركاته عليكم أيها الشهداء الأخيار الكرماء الأطهار البائعون لله أنفسكم وأموالكم.. فقد ربحتم البيع فاستبشروا ببيعكم الذي بايعتم به، وذلك هو الفوز العظيم.. نسأل الله الأعلى أن يلحقنا بهم ويختم لنا بالشهادة.