البحر الأحمر.. بؤرة صراع ومطامع لقوى متعددة (2)
علي الشراعي
في 16 سبتمبر عام 2009م تم التوقيع على مذكرة تفاهم أمني بذريعة منع تهريب الأسلحة عبر البحر الأحمر من خلال انشاء تحالف دولي وبالتعاون مع شركاء الولايات المتحدة الأمريكية في الشرق الأوسط وحلف شمال الأطلسي (الناتو)
وبالتعاون مع القيادة العسكرية الأمريكية لقارة افريقيا (أفريكوم) وحقيقته ذلك التعاون هو حماية المصالح الأمريكية في قارة افريقيا عامة والبحر الأحمر خاصة تحت غطاء التعاون والشراكة .
اليابان
تُعد جُغرافية اليابان قاسية عليها ويمكن أن تكون قاصمة للظهر نظرا لافتقار اليابان للمواد الأولية ومنها النفط ولذلك فأن مصلحة اليابان في تأمين طرق عبوره اليها من الشرق الاوسط من خلال مضيق هرمز كما أن لليابان مصلحة كبرى لضمان مرور سفنها المحملة بصادراتها الى العالم عبر مضيق باب المندب .
وتعمل اليابان على تركيز نفسها إلى جانب الولايات المتحدة الأمريكية وفرنسا والصين ودول أخرى لضمان أمن مضيق باب المندب ولليابان مصلحة في القضاء على القرصنة البحرية التي تنطلق من سواحل الصومال والتي تهدد التجارة العالمية ومنها التجارة اليابانية وخوفا من تكرار ما حدث حيث واجهت اليابان ظاهرة القرصنة والتي هددت تجارتها عبر مضيق ملقا في منتصف التسعينيات من القرن العشرين حيث شهدت دول شرق آسيا أزمة اقتصادية كبيرة مما أدى إلى تردي الأوضاع الأمنية فنشأت ظاهرة القرصنة البحرية في مضيق ملقا ومن الدول المطلة على المضيق (سنغافورة – ماليزيا – اندونيسيا ) مما دفع باليابان بالتدخل سياسيا وماليا لإيجاد تعاون بين الدول المطلة على مضيق ملقا لمحاربة ظاهرة القرصنة وتحقق لها ذلك عام 2004م . - لكن فيما يخص البحر الأحمر ومضيق باب المندب تم شرعنه تواجد العديد من الدول الطامعة بالمنطقة بسفنهم واساطيلهم البحرية عبر قرارات مجلس الأمن بذريعة محاربة القرصنة عام 2008م .
وتساهم اليابان في الجهود الدولية لمراقبة باب المندب وقد صرح اليابانيون في عام 2001م بأنهم سيرسلون سفن دورية للقيام بصد هجمات القراصنة - في البحر الأحمر وبالأخص سواحل الصومال ومضيق باب المندب - وتمتلك اليابان حاملة طائرات هجومية وتخطط لأضافه حاملة طائرات وعدد من الغواصات ونظرا لما تحتويه القارة الأفريقية من موارد تحتاج إليها اليابان ومنها اليورانيوم فكان لابد من تواجد اليابان في القارة الأفريقية وفي البحر الأحمر ولتأمين وجودها أنشأت اليابان قاعدة عسكرية في جيبوتي عام 2011م . وكان هدف اليابان من وراء ذلك مكافحة القرصنة وتأمين مرور صادراتها عبر مضيق باب المندب .
الصين
ترى الصين نفسها أنها القوة القادمة في شرق آسيا اقتصاديا فلابد من تأمين طرق الطاقة إلى شرق آسيا من بلدان الخليج العربي وذلك بضمانة وجود لنفوذ صيني في محيط مضيقي هرمز وباب المندب . كما أن للصين طموح في تبوء مركزا متقدما عالميا ولذلك فإن تمركزها في البحر الأحمر وبالقرب من باب المندب يجعلها في خضم الأحداث العالمية . فالصين تعمل بكل طاقاتها لاختراق المحيط الهندي والوصول إلى هرمز وباب المندب ومنه إلى البحر الأحمر فالقارة الأفريقية ولقد قطعت الصين شوطا كبيرا خاصة في ما يتعلق بالتغلغل في السودان .
ومع مطلع القرن الواحد والعشرين سعت الصين للتمركز على ساحل البحر الأحمر الشرقي في جيبوتي وذلك بالتفاوض لبناء قاعدة عسكرية لها على الأراضي الجيبوتية حيث تستفيد جيبوتي من موقعها الاستراتيجي وذلك بقيامها بتأجير مساحات من أراضيها للدول الراغبة في أنشاء قواعد عسكرية لها وتبلغ مساحة جيبوتي (23000 كم2) ونالت استقلالها من فرنسا عام 1977م . ففي عام 2006م قامت جيبوتي بتوقيع اتفاقية مع شركة موانئ دبي العالمية من أجل ادارة مينائها الوحيد (ميناء جيبوتي ) ومطاريها الدوليين لمدة خمسين عاما لكنه في يوليو 2018م . أعلنت شركة ميناء جيبوتي إنهاء اتفاقية المشروع المشترك المُبرمة بينها وبين موانئ دبي العالمية من جانب واحد حيث أعتبر تلك الاتفاقية انتهاك لسيادة جيبوتي .
وقامت الصين بتمويل مشاريع بنية تحتية في جيبوتي مما يشير الى تطور كبير في العلاقات الجيبوتية - الصينية . وفي عام 2017م أنشأت الصين قاعدة عسكرية لها في جيبوتي وهي قاعدة لوجستية امداد وتزويد وجمع معلومات وهدفها مكافحة الارهاب والقرصنة وضمان أمن البحر الأحمر ومضيق باب المندب تحديدا .
صراع القوى
مزاحمة الصين للولايات المتحدة الأمريكية في البحر الأحمر والخليج العربي والقارة الأفريقية يعد في خانة ابعاد الأنظار عن أنشاء الصين لجزر كبيرة في المحيط الهادي وأقامه قواعد عسكرية عليها , كما ان التواجد الصيني يسبب ازعاجا للولايات المتحدة الأمريكية خاصة في حال نجاح الصين في احكام قبضتها على الجزر المتنازع عليها في بحر الصين الجنوبي واذا ما تم ذلك مع نجاح التموضع الصيني في القارة الأفريقية وعلى سواحلها الشرقية تحديدا فأن جدارا صينيا يكون قد تم انشائه يحيط بمنطقة قلب العالم من جهة ويحيط بالساحل الغربي للولايات المتحدة الأمريكية مما يعني عزل كل من اليابان وكوريا الجنوبية حلفاء أمريكا في المحيط الهادي . ونظرية قلب العالم او الأرض هي نظرية سياسية تحدث عنها العالم الجغرافي البريطاني (هالفورد ماكندر) عام 1904م في كتابه ( المحيط الجغرافي للتاريخ ) وتتلخص النظرية بانه من يستطيع السيطرة على هذا القلب يمكنه من السيطرة على العالم .
كما أن النشاط الاقتصادي الصيني في كل من ماليزيا واندونيسيا والفلبين وفيتنام والذي تقوم به جاليات صينية معتبرة في ذلك البلدان سيكون من لبنات الجدار الصيني الذي تبنيه الصين بكل هدوء في المحيط الهادي مما يترتب عليه فرض عزلة لا ارادية على أمريكا ومما يعنى اعادة اليابان وكوريا الجنوبية التفكير في جدوي التحالف معها والاستعاضة عن ذلك بالتحالف مع الصين , وعلى أمريكا منع أمكانية التحالف الصيني – الياباني وهو التحالف الأهم على الاطلاق في حالة تم انجازه ومن جانب آخر تكافح أمريكا منع التمدد الصيني في افريقيا وعلى سواحلها المطلة على البحر الأحمر وللكيان الصهيوني دورا مهم في معاونة امريكا عبر اتفاقيات تعاون للوقوف في وجه الصين في افريقيا والبحر الأحمر . وللصين مصالح هامة في القارة الافريقية أهمها تأمين مصادر الطاقة لأدامه الحياة الصينية كما أن الصين تعد من أكبر بناء السفن العملاقة عالميا مما يجعلها تبحث عن مرافئ على طرق السفن لأنشاء قواعد عسكرية وبالأخص على الموانئ والجزر و السواحل المطلة على البحر الأحمر .
روسيا
المعضلة الروسية منذ القياصرة هي تجمد سواحلها الشمالية أغلب أيام السنة مما يحد من حركة اساطيلها البحرية المدنية والعسكرية على حد سواء فروسيا تسعى جاهدة للوصول إلى المياه الدافئة ولقد خاضت روسيا القيصرية سابقا حروبا ضد الدولة العثمانية للاستحواذ على موطئ قدم بحرى لها على المياه الدافئة وشنت حربا على السويد من أجل السيطرة على بحر البلطيق ومع قيام الاتحاد السوفيتي على انقاض روسيا القيصرية اصبح لروسيا اطلاله على المحيط الهادي من خلال جزر سخالين وكوريل اللتان حصلت عليهما من اليابان اثر هزيمة اليابان في الحرب العالمية الثانية (1939- 1945م).
وفيما يخص البحر الاحمر فقد قام الاتحاد السوفيتي في محاولاته للدخول للبحر الأحمر خاصة مع وصول نظام الرئيس جمال عبدالناصر لرأس السلطة في مصر عام 1952م فبدأت المحاولات السوفيتية ومن خلال مصر للتمدد في البحر الأحمر وعلى جنباته محاولة خلق تحالفات عسكرية مع دول البحر الأحمر في ظل اشتداد الحرب الباردة بين الاتحاد السوفيتي وأمريكا للسيطرة على المنطقة , وقام الاتحاد السوفيتي بدعم الحركات الثورية التي ازدهرت في الخمسينيات والستينيات من القرن العشرين ومن تلك الحركات ثورة 26 سبتمبر 1962م في اليمن الشمالي وكانت موسكو أول دولة أجنبية تعترف بالنظام الجمهوري باليمن ولم يكن هذا أول اعتراف لموسكو باليمن فقد اعترفت عام 1928م باليمن كدولة مستقلة ذات سيادة , وفي عام 1964م ابرم الاتحاد السوفيتي معاهدة صداقة مع اليمن الشمالي ومع خروج المستعمر البريطاني من جنوب اليمن عام 1967م استطاع الاتحاد السوفيتي بسط نفوذه في جنوب اليمن سابقا مباشرة وتخلت موسكو عن اليمن الشمالي لصالح اليمن الجنوبي لاعتناقها الفكر الماركسي
وأعطى جنوب اليمن تسهيلات بحرية للاتحاد السوفيتي في كل من جزيرتي ميون وسُقطرى وميناء عدن كمرتكز لها في البحر الأحمر والمحيط الهندي مما اوقف الاطماع الأمريكية والصهيونية باليمن آنذاك.
تأمين الأساطيل
كما استطاع الاتحاد السوفيتي الدخول الى القارة الافريقية ودولها كالصومال واثيوبيا وموزمبيق وانغولا ونيجيريا وتنزانيا , وفيما يخص الدول الشرقية لأفريقي المطلة على سواحل البحر الأحمر ساندت موسكو مع اثيوبيا ضد الصومال لاحقا وتمكنت امريكا ان تحل محل الاتحاد السوفيتي في الصومال , وكانت اثيوبيا تمتلك سواحل ارتيريا على البحر الأحمر فحينما استقلت اريتيريا عام 1993م فأصبح للسوفييت تواجدا على السواحل والجزر الاثيوبية في البحر الأحمر , ولقد رأت امريكا في تواجد الاتحاد السوفيتي في القارة الافريقية وسواحل وجزر البحر الأحمر خطرا كبيرا لمصالحها وفي دعمها لحركات التحرر الأفريقية .وقد اطلقت موسكو عام 1980م مبدأ بريجينيف والذي جاء كرد على مبدأ كارتر ومن نصوص مبدأ بريجينيف عدم أقامه قواعد عسكرية في منطقة الخليج العربي وعلى الجزر المتاخمة له وضمان استخدام الممرات المائية البحرية بين دول الخليج العربي والعالم .
ومع هيمنة القطبية الواحدة بعد سقوط الاتحاد السوفيتي مطلع التسعينيات من القرن الماضي نجد روسيا اليوم تسعى لاستعاده تواجدها كدولة بحرية عظمي من خلال سيطرتها على شبة جزيرة القرم عام 2014م , وترى روسيا اليوم كما رأى الاتحاد السوفيتي السابق في البحر الأحمر ساحة لتحقيق أهدافها العسكرية والمتمثلة في تأمين اساطيلها العسكرية زمن الحرب وذلك من خلال اقامة قواعد عسكرية على جنباته وفوق جزره.