اليمن .. بين انتقام الجغرافيا والمشاريع العدوانية !
علي الشراعي /
عندما استطاع شعبنا القيام بثورة 26 سبتمبر 1962م وأقام النظام الجمهوري بشماله ، وحرر جنوب الوطن من الاستعمار البريطاني بثورة 14 اكتوبر 1963م
ونيله الاستقلال في 30 نوفمبر 1967م لم تنته المشاريع الاستعمارية والعدوانية على اليمن أو تتوقف بل ازدادت في تآمرها وعدائها حتى اليوم . لأن العداء لليمن لم يكن موجها ضد نظام بعينه , وإنما ضد اليمن بشكل عام , ومنع قيام أي دولة تعمل على إعادة بناء اليمن , كدولة مستقلة ذات سيادة . ولهذا فإن كل سلطة فيه مستهدفة وكذلك أي حركة وطنية أو تحرك شعبي يهدف لإيجاد نظام ودولة ذات قوة وسيادة دون وصايا خارجية.
نقمة الموقع
إن حساسية الموقع الجيوستراتيجي لليمن كبيرة وخطيرة للغاية إقليميا ودوليا لاعتبارات كثيرة وأهمها وقوعها المتاخم والمتداخل مع المخزون الأضخم للنفط والغاز عصب الصناعة في أمريكا والغرب والعالم كله , وتحكمها في مضيق باب المندب الذي يعتبر من أهم ممرات ناقلات النفط العالمية العملاقة التي تنقل يوميا ما يزيد عن 51% من حجم استهلاك الطاقة في العالم , أضافه إلى وقوع اليمن في عمق أكبر سوق لشراء واستيراد الأٍسلحة وهي سوق ممثلة بإمارات ومشيخات وسلطنات وممالك بدو الخليج والسعودية الأكثر استيراداً للأسلحة الأمريكية والأوروبية وتشغيلا لمصانع وشركات الأسلحة في العالم قاطبة . وبذلك فقد منح العدوان على اليمن اقتصاديات الولايات المتحدة الأمريكية والدول الأوروبية مئات المليارات من الدولارات , فقد تضاعفت مشتريات السعودية ودول الخليج من الأسلحة عشرات المرات وتبعا لذلك ضاعفت الحيوية في شرايين الاستثمارات الغربية والامريكية وغيرهما . إنها لعنة الموقع الاستراتيجي الذي كان يفترض أن يكون نعمة وإذا به يتحول إلى نقمة وابتلاء حل باليمنيين.. وبفعل العدوان على اليمن والتدخل الإقليمي أصبح لتحقيق اهداف ومطامع خارجية وانتقل من ذريعة شنهم للعدوان إلى المحافظات البعيدة عن ما أسموه (استعادة الشرعية) - كحضرموت والمهرة التي تمتد سواحلها على بحر العرب حوالى 600 كم كذلك احتلوا جزيرة سقطرى حيث أصبحت تلك المناطق مسرحا لتسابق دول العدوان على بسط سيطرتهم ونفوذهم عليها , ولكم بدت دول العدوان متكالبة على تقاسم اليمن وتمزيقه . .
عداء تاريخي
إن الملمح الأبرز للمحنة اليمنية في بعده الخارجي الإقليمي يتمثل في النظرة الخاطئة المسيطرة على عقل حكام المملكة العربية السعودية التي تفاقمت بصورة أكبر بعد حرب 1934م والتي تقول إن قوة المملكة العربية السعودية في ضعف اليمن وهي فكرة خاطئة ووهم ذاتي مريض فقد تبين أن السعودية والمتحالفين معها في عدوانهم على اليمن يفضلون يمنا بلا دولة , يمنا بلا استقرار , يمنا بلا اقتصاد قوي , يمنا بلا وحدة وطنية , يمنا تابعا ملحقا باللجنة السعودية الخاصة . تعرضت اليمن للحرب والاعتداء من قبل الكيان السعودي منذ بداية تأسيسه وإعلانه كمملكة في سنة 1932م بعد ان اغتصبوا الملك من أسرة الرشيد في نجد وأسرة الشريف حسين في الحجاز وتطلعوا نحو اليمن , وكان المراد يومها ضمن المخطط الإمبريالي أن تكون اليمن جزءاً من النظام الجديد للمملكة , إلا أن هذا المخطط والعدوان لم يفلح وواجه مقاومة عنيفة من قبل الدولة اليمنية الناشئة , بعد تحررها من السلطات العثمانية وتلاحم الشعب مع السلطة في مواجهة ذلك المخطط , الذي يستهدف اليمن تاريخا وحضارة وتم إيقاف الحرب بتوقيع اتفاقية الطائف سنة 1934م وحدد عشرين عاما للتجديد إلا أن النظام السعودي انقلب عليها بعد قيام ثورة 26 سبتمبر 1962م وقام بعدوان جديد تحت مبرر إعادة الشرعية الملكية التي لم يكن على وفاق معها ولكنه أراد من خلال ذلك استغلال هذا الحدث العظيم لتصفية الدولة الجديدة في اليمن مهما كان لونها أو توجهها . واقدمت على التحالف بعدوانها مع العديد من دول العالم كبريطانيا وفرنسا وامريكا والاردن وايران وبلجيكا وغيرهم وجلبت مرتزقة من مختلف الدول لإجهاض ثورة 26 سبتمبر1962م . وبنفس الوقت لم تكن صادقة بمساندة الملكيين باسترجاع عرشهم . فقد اوضح المرتزق البريطاني ديفيد سمايلي في كتابه ( مهمة في الجزيرة العربية ) حينما كان يعمل كمرتزق لحساب السعودية في عدوانها على اليمن ( ان السعوديين لأسباب خاصة بهم كانوا يمنحون الملكيين مساعدة تكفي فقط لإطالة أمد الحرب ولكنها لا تكفي لكسبها تماما .... وصار الأمير عبدالله ابن الحسن فيما بعد ناقدا بمرارة وبأفراط للسعوديين الذين سيتهمهم علنا بخوض حربهم الخاصة ضد عبد الناصر بدماء اليمنيين , ولم يكن مستغربا ان يقوم السعوديون في الاخير بعزله وقد قتل قرب نهاية الحرب ولا زال امر مقتله وما اذا كان قد تم بواسطة عملاء السعوديين او الجمهوريين غامضا ) واستمر هذا العدوان حتي عام 1970 م واعتراف النظام السعودي وان كان سياسيا وظاهريا بالنظام الجمهوري بثورة 26 سبتمبر مع استمراره بمشاريعه العدوانية ضد اليمن بدليل احتلاله للوديعة 1969 م واشعال حرب 1972م بين الشطرين وعدم اعترافه باستقلال جنوب اليمن من الاستعمار البريطاني الا عام 1976م وبتدخل من دولة الكويت الشقيقة.
مشروع انفصال
وهناك عدوان على اليمن بشكل مختلف ولنفس الهدف فقد أرادت بريطانيا أثناء استعمارها لجنوب اليمن أن تؤسس دولة مستقلة عن اليمن وأطلقت عليها ( دولة الجنوب العربي) تضم إليها المحميات الشرقية والغربية ولكن انتصار حرب التحرير وتفجير ثورة 14 اكتوبر 1963م أفشل هذا المخطط , الذي توج بالاستقلال في 30 نوفمبر 1967م . ولكن العدوان لم ييأس ولم يتوقف بل عمل جاهدا كعادته على اعاقة توحيد اليمن بشطريه آنذاك فتم إعلان إقامة جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية في جنوب اليمن بدلا من توحيد الشطرين وقتها واستمرت حتى إعادة الوحدة اليمنية الخالدة في 22مايو1990م .
ثأر الجوار
إن ثأر الجوار هو انتقام من ( اليمن الجمهوري) أو ( اليمن التقدمي) يبدو ضاربا في عمق التاريخ والعلاقات الملتبسة بين اليمن وجيرانها وضاريا , وليس من السهل قياس تداعياته وتردداته التي سترسم معالم وملامح الأيام والأعوام القادمة . ولئن كانت السعودية قد شنت عدوانا على اليمن بذريعة واهية اثبت الواقع خلاف ذلك فقد بدأ واضحا أن عدوان السعودية على اليمن ينطلق من شعورها المزمن ( بأن الخطر الأساسي على المملكة العربية السعودية المرتكزة على نجد هو اليمن فرغم أن اليمن لا يملك سوى ربع مساحة أرض المملكة العربية السعودية , فإن سكانها يبلغون الحجم نفسه , حيث يقع القلب الديموغرافي البالغ الأهمية لشبه الجزيرة العربية في الركن الجبلي منها ... وفي الحقيقة لم يتمكن الأتراك ولا البريطانيون من السيطرة على اليمن أبدا , فلم يكن اليمن مستعمرة حقيقية على الإطلاق .... ) ويضيف روبرت كابلان مؤلف كتاب ( انتقام الجغرافيا ) بقوله : ( إن مستقبل اليمن المزدحم بسكانه ذوي الطبيعة القبلية سيمارس دورا كبيرا في تحديد مستقبل السعودية , وربما كان ذلك متعلقا بالجغرافيا أكثر مما يتعلق بالأفكار ...) . فالسياق التاريخي للأحداث في اليمن يقرأ من زاوية أنه يشكل القلب الديموغرافي (السكاني) لدول لا تريد له الاستقرار وطالما تعاملت بالتجزئة مع كياناته القبلية والتقليدية , وتعهدت برعاية ودعم كل من لاذ بها من السلاطين والمشايخ وكافة الرموز والأطراف التي استثمرت وأثرت من إشاعة مناخ الفوضى والاحتراب .
مشاريع عدوانية
يتسأل اللواء الركن علي محمد عون في كتابه (مسيرة الحركة الوطنية اليمنية 1962- 2011م ) لماذا هذا العداء وهذه الحروب والتآمر ضد اليمن ؟! في حين أنه يعرف عن اليمنيين وعن اليمن بشكل عام أنه لم يعتدِ في يوم من الأيام على أحد وإنما كان ناصرا لكل الشعوب المظلومة وداعما لحركات التحرر والاستقلال . وأكد ذلك عندما حدد أهدافه الستة التي أعلنتها ثورة 26 سبتمبر 1962م , ونصت في مجملها على مد يد التعاون ومع كل الشعوب والدول . ويضيف بالقول : هذه الحروب والعداوات والحصار كلفت اليمن الكثير في اقتصادها وامكانياتها وعدم استقرارها من أرواح شهدائها ودمائهم , وظل اليمن ينتقل بين مشاريع عدوانية مستمرة فكلما تخلص من مشروع عدائي واجه مشروعا أخرو اليمن حتى اليوم - عدوان 26مارس 2015م – يناضل ويقاتل من أجل تحقيق سيادته وتحقيق العدالة لشعبه وحماية وحدته وأراضيه ومياهه وبحاره وجزره من عدوان انخرط في المشروع الغربي كأداة تنفيذيه لأهدافهم واطماعهم باليمن .
إن هذه الحروب التي تواجه اليمن وهذا التآمر العسكري والاقتصادي والإعلامي كلها توجه من قبل قوى الإمبريالية العالمية وأدواتها في المنطقة للقضاء على الإرث التاريخي والحضاري والسكاني الذي يمثله اليمن , وتخشى منه ومن تأثيره على مصالحها التي أسست فيها أنظمة صنعها هذا النظام الإمبريالي الاستعماري - سواء بثوبه القديم احتلال مباشر أو بثوبه الجديد عبر وكلائه بالمنطقة - لاستمرار استغلاله واستثماره للثروة البترولية التي تحتويها الجزيرة العربية . هذه هي حقيقة هذا العداء لليمن وهي وراء كل المخططات العدائية والحروب التي تشن على اليمن . في ظل صمت للعالم العربي ممثلا بجامعته العربية والعالمي ممثلا بالأمم المتحدة وهيئاتها المختلفة وبالذات الإنسانية والتي هي بالأساس أنشأت لتخدم المشروع الأمريكي الاستعماري التوسعي فالأمم المتحدة كما وصفها اكثر من مرة (كوفي عنان ) الأمين العام للأمم المتحدة لفترتين من عام 1997 إلى 2006 م . (أن الأمم المتحدة هي الولايات المتحدة متنكرة في زي آخر ) .( كلام في السياسة - هيكل) .
دوافع توسعية
لم يقم اليمن بأي عدوان على السعودية وشعبها ولا على غيرهم من دول الجزيرة العربية ويعتبر نفسه جزءاً منها , ولكن النظام السعودي وبدافع التوسعة والتمدد استمر في عدوانه ومحاولته القضاء على الدولة اليمنية أيا كان نظامها وسياستها وتوجهها . هذه حقيقة ثابتة أن العداء هو لوجود دولة لليمن توحد وتقود الشعب اليمني كدولة مركزية مستمدة سلطتها من الشعب وتاريخها وحضارتها العريقة .
تحقيق اهداف
خلافا للمزاعم المعلنة حول تدخل السعودية ودويلة الإمارات في اليمن وشنهم لعدوان 26 مارس 2015م تؤكد الوقائع الميدانية بأن هذه الدول استثمرت أيضا ضعف وهشاشة الحالة اليمنية , وفي المعضلة اليمنية التي تكمن في واقع أن المكونات القبلية والمدنية والدينية المسلحة تعمل غالبا لدى الأطراف الإقليمية , وتعول على المساعدة القادمة من تلك الأطراف بدرجة أساسية وشبه مطلقة .. و بعد أن انقسمت دول العدوان وأعلن عن استبعاد دولة قطر في يونيو 2017م ازداد المشهد تشوشا وضبابية وتعقيدا وازداد الانقسام في الساحة اليمنية ( المحافظات المحتلة ) الممزقة والمنقسمة من أصله , وتكاثرت القوى المحاربة بالوكالة التي تسلحها وتمولها دول العدوان , حيث تسعى كل واحدة منها إلى تحقيق أهداف خاصة بها , بحسب تقرير فريق مجموعة الخبراء الأمميين التابعين لمجلس الأمن مطلع 2018م . ولقد اتسع مسرح العدوان والاحتلال ليشمل اليمن كلها بحرا وبرا وجوا سواحل وصحارٍ وجزرا
تداعيات العدوان
إن النظر إلى مآلات التدخل والعدوان الخارجي في أي بلد كاليمن أو ليبيا بالاستناد إلى قراءة عالم الاجتماع التونسي (المنصف وناس) في كتابه ( ليبيا التي رأيت ... ليبيا التي أرى ) فقد كتب : ( إن التدخل الخارجي لا يفضي فقط إلى خراب الأبنية وهذا مقدور عليه زمنيا وماديا , ولكنه مولد لما هو أخطر من ذلك وهو خراب النفوس والعقول التي لا يمكن أن تنصلح - إذا ما انصلحت - إلا عبر قرون طوال من عمر الشعوب والمجتمعات ....... ولنا عبر دامغة كذلك فيما حصل في فيتنام ويوغسلافيا سابقا وكوسوفو وخاصة في العراق وسوريا واليمن من دمار وتمزيق لوحدة المجتمع الجغرافية والمادية ) ويضيف : ( إن الاستعانة بالخارج تفتح الباب على مصراعيه أمام الفوضى والمجهول ... ونصبح رهائن عنف الجهة التي تُبرمج والتي غالبا لا تحس بأي شعور بالذنب ... فالمتدخل يُخضع المتدخل من أجله لمنطق حساباته الآنية ويقحمه في مصالحه الآجلة ويجعل منه القاعدة والمنطلق لأهدافه ومطامحه الظرفية والاستراتيجية ) . ويؤكد وناس ايضا : ( فالمشكلة لا تكمن في أن التدخلات الخارجية ذات كلفة بشرية باهظة ولكن أيضا في أنها لا تمثل حلا بغض النظر عن اختلاف القراءات في الواقع ... , وان الأزمات السياسة تفتح الباب على مصراعيه أمام المغامرين وغير المكترثين بمصير الشعوب... والتدخل الخارجي عدوان جريمة أخلاقية وقانونية في حق البشرية ويفضي إلى الدمار والفوضى وتفتيت الوحدة الوطنية وتلاشي الروح الجامعة فينشأ بفعل ذلك التدخل والعدوان الخارجي مجتمع مفكك ومتشظي وتدمير مؤسسات الدول دون ان يولد من جديد مجتمع قوي والتدخل الخارجي هو من عمم الفوضى دون أية بدائل لأنه لا يفكر أصلا في البدائل ) .