القرار الأمريكي.. رهينة اللوبي الصهيوني (4)
في عام 1992م , وأثناء المعركة الانتخابية في الولايات المتحدة الأمريكية بين بوش الأب وكلينتون حدث أن أذيع تسجيل مكالمة تليفونية لـ( ديفيد ستينر) مدير منظمة ( آيباك اليهودية ) الشهيرة ,
وهي أساس قوام اللوبي الصهيوني في الولايات المتحدة . وقد جاء في المكالمة ما يدل على أن مدير المنظمة اليهودية قادر على تعيين وزراء الخارجية والدفاع في إدارة كلينتون إذا ما نجح , كما أنه قادر في ذات الوقت على فرض أوامره وشروطه على كبار مسؤولي إدارة الرئيس بوش , فضلا عن عبارة أخرى تؤكد على أن العديد من المقاعد في مجلسي الشيوخ والكونجرس هي تحت تصرفه الشخصي ! .
علي الشراعي
وعندما دُعي الرئيس الأمريكي بيل كلينتون لحضور الاجتماع السنوي للجنة العامة الأمريكية -الصهيونية أكد في كلمته على ضخامة المساعدات العسكرية التي تقدمها الولايات المتحدة للكيان الصهيوني حيث قال : ( لقد وفت الولايات المتحدة بوعودها : وأصبحت قدرة إسرائيل العسكرية أشد منها في أي وقت مضى . فقد وافقنا على بيع شحنة من طائرات أف 15 المتطورة , وهي أفضل سلاح من نوعه في العالم من حيث اتساع مدى الفاعلية .كما واصلنا ما بدأناه إثر حرب الخليج من إمداد إسرائيل بشحنة مؤلفة من 200 طائرة مروحية مقاتلة ,وتعهدنا بالمساهمة بمبلغ 350 مليون دولار لإنتاج صواريخ أور , والتي ستحمي إسرائيل من أي هجوم صاروخي جديد , وقمنا بتزويدها بنظام متطور لقاذفات الصواريخ المتعددة ) .
تغيرات دولية
تولى الرئيس ( جورج بوش , ح : جمهوري , 1989- 1993م ) منصبه في يناير 1989م , وخلال فترة رئاسته حدثت تغيرات دولية فقد شُغل انتهاء الحرب الباردة وانهيار الاتحاد السوفيتي من الداخل , وانهيار حلف وارسو , والديمقراطيات الجديدة الناشئة في شرق أوروبا تفكير الإدارة الأمريكية والكونجرس . وكان قد أعلن وقف إطلاق النار في حرب إيران والعراق , وغير رحيل القوات السوفيتية شكل العمليات القتالية في أفغانستان . وفي سياق هذا النظام الدولي المتغير ظهرت الولايات المتحدة الأمريكية كقطب واحد يحكم ويهيمن على العالم وفيما يخص عملية السلام التي بدأت في عهد الرئيس السابق ريجان , فخلال العام والنصف الأول من إدارة بوش سعى لبدء عملية التفاوض بين الفلسطينيين والكيان الصهيوني من خلال المفاوضات المباشرة ورغم الخلاف على قضايا اهمها الأرض مقابل السلام . ومع ذلك فقد استمرت المساعدات الاقتصادية والعسكرية الضخمة للكيان الصهيوني . وفي اعقاب العملية البحرية التي شنها اعضاء جبهة التحرير الفلسطينية في 30 مايو 1990م على احد الشواطئ الصهيونية ضغطت واشنطن على عرفات كي يدين قائد الهجوم أبا العباس . ومع اعتقاد متزايد بأن العودة إلى الكفاح المسلح هو الحل الوحيد للقضية الفلسطينية . ووجهت قيادة منظمة التحرير الفلسطينية بالقرار التالي : إما الرضوخ للضغوط الأمريكية لمعاقبة أبي العباس كشرط لاستمرار الحوار من جانب واحد , أو مراعاة السخط في الأراضي المحتلة, ففي يونيو 1990م , حين رفض عرفات معاقبة أبو العباس علقت الولايات المتحدة حوارها الذي دام ثمانية عشر شهرا مع منظمة التحرير الفلسطينية. ومع نجاح حزب الليكود الصهيوني المتشدد بوصول ( اسحاق شامير ) كرئيس وزراء للكيان الصهيوني في يونيو 1990م , كانت عملية السلام في حالة سبات .
حماية الكيان
ومع غزو العراق للكويت في اغسطس 1990م . واثناء أزمة الخليج والحرب ضد العراق عام 1991م , كُلف الكيان الصهيوني بدور هامشي . إذ بدا أن موقعها كأصل استراتيجي قد تلاشي , فاللوبي الصهيوني ادرك في حكومة بوش أن الكيان الصهيوني غير مطابق لمقتضى الحال فيما يتعلق بالأعمال المحتملة في شبه الجزيرة العربية والخليج . ولم يكن الكيان خلال ازمة الخليج منطقة لتجميع القوات أو مستودعا لتجميع القوات أو مستودعا للمواد العسكرية . فقد كان هناك توجه امريكي لبناء قوة دولية ذات قاعدة عريضة بها مكون عربي للتصدي لصدام حسين ولإبعاد الكيان الصهيوني عن المشاركة حتى لا يكون هناك استثارة لشارع العربي إذ كان الكيان الصهيوني جزءا من التحالف . من جانب أخر خلفت هجمات الصواريخ سكود ضد الكيان الصهيوني وضعا صعبا . ولم يرد الكيان الصهيوني بعمل عسكري ضد العراق , لكون امريكا زودت الكيان ببطاريات الصواريخ باتريوت , وكانت زيارة نائب وزير الخارجية الامريكي ( لورانس إيجلبرجر) للكيان الصهيوني على قدر كبير من الأهمية .
10مليار دولار
أكد بوش في كلمة ألقاها في جلسة مشتركة للكونجرس في السادس من مارس عام 1991م , عزم الولايات المتحدة على إنجاز عملية السلام : ( لا بد أن يقوم السلام الشامل على أساس قراري مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة رقمي 242 و 338 ومبدا الأرض مقابل السلام . ولا بد أن ينص هذا على أمن إسرائيل والاعتراف بها, وكذلك الحقوق السياسية الفلسطينية المشروعة) .. وفي اعقاب حرب الخليج الثانية بدأت واشنطن بأحياء عملية السلام . حيث ربطت حكومة بوش قروض الإسكان المقترحة للكيان الصهيوني اللازمة لتوطين اليهود السوفيت في الكيان الصهيوني بتوقفه من اجراءات بشأن المستوطنات في الضفة الغربية وقطاع غزة وتجاوبه مع عملية السلام .ففي خريف 1991م طلب بوش من الكونجرس تأجيل بحث طلب الكيان الصهيوني ضمانات أمريكية لقروض 10 مليار دولار . وامام ضغط اللوبي الصهيوني وضعت إدارة بوش شروطا لضمانات القروض . ومع صعود ( إسحاق رابين ) في منتصف عام 1992م , كرئيس للوزراء الكيان الصهيوني , اخذت العلاقات الامريكية - الصهيونية بالتطور . فعند تقديم رئيس الوزراء إسحاق رابين وزارته للكنيست في يوليو 1992م , حدد العلاقة مع امريكا قائلا : ( سوف تظل الولايات المتحدة , التي نقدر صداقتها وحميميتها الخاصة , تشاركنا كذلك في إحلال السلام . ولن نضيع جهدا في تقوية العلاقة الخاصة التي تربطنا بالقوة الوحيدة في العالم وتحسينها . وسوف نستفيد بالطبع من نصحها , ولكن القرارات ستكون لنا وحدنا , أي لإسرائيل باعتبارها دولة مستقلة ذات سيادة . وكانت القواعد السياسية الأساسية للحكومة , كما أقرها البرلمان سوف تتضمن تركز الحكومة الجهود لتعميق وتحسين علاقة الصداقة الخاصة القائمة بين الولايات المتحدة وإسرائيل ) .
شريك استراتيجي
أثناء زيارة رابين لواشنطن في اغسطس 1992م , ركز رئيس الوزراء الصهيوني رابين والرئيس الأمريكي بوش على استئناف الجوانب الإيجابية من العلاقات الامريكية - الصهيونية . وأشار بوش إلى أن الزيارة مهمة وكانت الاجتماعات مهمة كذلك بالنسبة لجو المناقشات . وأفضل ما يوصف به الوقت الذى أمضيناه معا هو أنه تشاور بين صديقين حميمين وشريكين استراتيجيين . وأعلن انهما توصلا إلى اتفاق بحيث تدعم إدارة بوش ضمان قروض الكيان الصهيوني . كما أشار الرئيس بوش إلى ( إننا نفهم موقف حكومة رابين فيما يتعلق ببناء المستوطنات .. ونحن نحيى ما يسعى رئيس الوزراء للقيام به فنحن نتفهم موقفه . كما أنه يتفهم موقفنا ومن الواضح أننا ما كنا لنمضي قدما بالنسبة لضمان القروض ) ! . وخلال مفاوضات السلام التي ترعاها واشنطن أعلن بوش في نوفمبر من عام 1992م , الموافقة على ضمانات القروض البالغة 10مليارات دولار للكيان الصهيوني للاستيطان , كذلك إبعاد الكيان 417 ممن زعم أنهم مؤيدون لحماس في ديسمبر 1992م , لتنسحب منظمة التحرير الفلسطينية من المفاوضات .
استرضاء الصهيونية
في أثناء حملته الانتخابية أعلن الرئيس ( بيل كلينتون , ح : ديمقراطي , 1993- 2001م ) أن قس الكنيسة الذي يؤدي الصلاة عنده ( أوصاه خيرا بإسرائيل ) . وقد قام كلينتون ونائبه آل جور بنشر كتاب في إطار حملتهما وقد أوضحا فيه أن الإدارة الجمهورية السابقة بقيادة بوش الأب قد أظهرت تقصيرا بالغا في حق إسرائيل وذلك بممارستها ضغوط هائلة على إسرائيل لتقديم تنازلات من جانب واحد في عملية السلام , كما أنها باعت أسلحة متطورة لجيرانها العرب , وأعلنا بوضوح لا لبس فيه أن القدس هي عاصمة إسرائيل وعارضا إنشاء دولة فلسطينية مستقلة . وكان وصول إدارة الرئيس كلينتون للبيت الأبيض ووصول حكومة اسحاق رابين لرئاسة الوزراء للكيان الصهيوني في 1992م , بمثابة أساس لاستمرار العلاقة ولكن بطريقة أكثر إيجابية , حيث كانت العلاقات القوية والآخذة في التحسن بين الأفراد والدولتين تتمحور حول عملية السلام العربية - الصهيونية وأكدت الولايات المتحدة للصهاينة استمرار التزام واشنطن بأمن الكيان الصهيوني وأخذت العلاقة بين كلينتون ورابين تتوثق أكثر و أكثر وأصبحت أشد حميمة بينما كانت عملية السلام التي بدأت في مدريد وازدادت مع أسلو تحقق تقدما . لتأتي عملية اغتيال رابين في نوفمبر 1995م , لتؤكد حجم ومستوى الوفد الأمريكي في الجنازة غير مسبوق إلى حد كبير , وكان يؤكد ايضا الصلة بين واشنطن والكيان الصهيوني , والصلات الخصية التي نشأت بين كلينتون ورابين . ومما يؤكد ذلك كلمة الرئيس كلينتون التي القاها أما اللجنة العامة الامريكية - الصهيونية : من أجل زيادة ما لدى إسرائيل من الأسلحة المتقدمة تكنولوجيا , فقد قمنا بتزويدها بأنظمة عسكرية فائقة , كما يسرنا لها أن تحصل من السوق الأمريكية على قاذفات صواريخ موجهة من الفضاء , وهي خطوة لم تسبق للولايات المتحدة أن اتخذت مثلها .... لقد أصبح التعاون بيننا في المجال الاستراتيجي وفي مجال المعلومات أوثق من أي وقت مضى . فقد نفذنا مناورات مشتركة واسعة النطاق , ونتوقع توسيع منشآتنا لتخزين المعدات العسكرية في إسرائيل ..
الطفل المدلل
كان رابين قد تخلى منذ زمن عن أسلوب ضم الأراضي الذي دأب حزب العمل الصهيوني على انتهاجه منذ عام 1967م , ولكنه رأي أن الوقت قد حان لزيادة وتيرة الاستيطان في المدينة المقدسة وتهويدها , وذلك بمصادرة 53 هكتارا أخرى في القطاع الشرقي من القدس والذي سبق للكيان الصهيوني مصادرة ثلثي أراضيها منذ عام 1967م , وتخصيصها لليهود وحدهم . وكان الهدف من ذلك هو خلق وضع لا يبقى معه أي شيء للتفاوض خلال المفاوضات المقرر إجراؤها عام 1996م . وقد قوبل هذا الاستفزاز الجديد باحتجاجات عنيفة من جانب البلدان العربية , التي نكأ جراحها اقتراح السيناتور ( دول ) بنقل السفارة الأمريكية في إسرائيل إلى القدس - وهو نفسه الذي وصف إسرائيل في عام 1990م , بأنها الطفل المدلل - ومن ثم طلبت الجامعة العربية عقد جلسة لمجلس الأمن , كما تقدمت فرنسا بطلب مماثل في 2 مايو 1995م . وفي هذه الجلسة وافقت 14 دولة من بين الدول الأعضاء في مجلس الأمن على مشروع قرار يطالب الكيان الصهيوني بالعدول عن قرار المصادرة . وعندئذ وبضغط اللوبي الصهيوني استخدمت الولايات المتحدة , للمرة الثلاثين من عام 1973م , حق النقض ( الفيتو) لكي تساند الكيان الصهيوني .
وفيما يخص قضية القدس فقد ايدت الولايات المتحدة وضع خطة تقسيم القدس باعتبارها كيانا منفصلا وأكدت الطابع الدولي للمدينة بينما رفضت الاعتراف بأي إجراء منفرد تتخذه أية دولة يؤثر على مستقبلها . وترفض الولايات المتحدة نقل سفارتها إلى القدس وتبقى عليها في تل أبيب , وهي بذلك توضح الرؤى المتعارضة للدولتين رغم موافقة مجلس الكونجرس ومجلس الشيوخ بأغلبية ساحقة في اكتوبر من عام 1995م على مشروعات القوانين الخاصة بنقل السفارة القدس بحلول عام 1997م , فالرئيس كلينتون يشير إلى أنه لن يفعل ذلك لأنه قد يربك مفاوضات السلام ) . وقد أثارت هذه الانحياز الامريكي قلق بعض ممثلي قوى الضغط الصهيوني في الولايات المتحدة . من أمثال ( توماس فريدمان ) الذي قال : ( إن القضية المحورية ليست قضية وضع القدس , التي ستظل عاصمة لإسرائيل مهما حدث ... ولكنها قضية مصداقية الولايات المتحدة كوسيط وحيد في الصراع العربي الإسرائيلي , وقضية مسيرة التفاوض مع الفلسطينيين ) .
اعتراض واشنطن
وقبل ذلك حدثت مجزرة الخليل في 25 فبراير 1994م , والتي راح ضحيتها عشرات الشهداء والجرحى وما تلاها من احتجاجات ومظاهرات في الشارع الفلسطيني واستخدام قوات الكيان الصهيوني كما هو عادتها العنف والقتل بحق المتظاهرين كتب الأمين العام للأمم المتحدة ( بطرس غالي ) إلى رئيس وزراء الكيان الصهيوني إسحاق رابين قائلا له: " إن الأمم المتحدة مستعدة للمساعدة في تخفيف حدة التوتر الناجمة عن تلك الاحداث , بما في ذلك الوجود في مدينة الخليل في حالة إعراب كافة الأطراف عن رغبتها وموافقتها " وبعث برسالة مماثلة إلى ياسر عرفات غير أن (جيمس روبين) المتحدث باسم البعثة الأمريكية لدى الأمم المتحدة هاجم وبشدة موقف الأمين العام للأمم المتحدة حيث قال: " نحن لا نعتقد أن اقتراح الأمين العام عامل نافع أو مفيد على الإطلاق " ! ليعلق الأمين العام للأمم المتحدة بطرس غالي حينما سأله صحفي عن ذلك ؟ قائلا : " إنه أمر غريب أن أبعث برسالة إلى رابين في القدس , ثم أتلقى الرد من روبين في نيويورك " .