أنفاق غزة.. هل تغير حروب المستقبل؟
شبكة من الأنفاق متعددة الطبقات والمهام تمكنت المقاومة الفلسطينية من إنشاؤها بقطاع غزة بمساحة تفوق عشرات المرات على مساحة القطاع وفي ظروف بالغة الصعوبة والتعقيد نجحت المقاومة في حفر الأنفاق بعيدا عن أعين الاحتلال وأدواته
وبهذا الإنجاز النوعي استطاعت المقاومة ان تؤسس قاعدة صلبة للمناورة والقتال والتخفي بسرعة ودقة متناهية بعد ان أصبحت تواجه الاحتلال الصهيوني بمهارة وشجاعة وكفاءة عالية تذكر بحروب الأنفاق خلال الحربين العالمتين الأولى والثانية وأنفاق الفيت كونغ للمقاومة الفيتنامية التي أصابت القوات الأمريكية بجنون الرعب وألحقت بها الخسائر الفادحة.
ناصر الخذري
في معركة هي الأصعب على كيان الاحتلال الصهيوني وداعمه الأمريكي تحول قطاع غزة الى مستنقع غرق فيه الغزاة وخارت قواهم وجعل من المقاومة اسطورة العصر بما وصلت من اليه من خوض معركة الدفاع والهجوم المباغت على العدو وارباكه والحاق الهزائم الكبيرة به وبجشيه المرتعش والمرعوب الذي رغم كثافة النيران التي يصبها على رؤوس المدنيين وحجم القنابل الأمريكية الخارقة للحصون إلا ان الأنفاق في غزة العزة لا تزال صامدة وقوية يدير من خلالها رجال المقاومة معركة تاريخية ونوعية ضد العصابات الصهيونية والأمريكية المارقة التي اصحبت بما تمتلكه من أسلحة ومعدات حديثة أهدافا سهلة امام المقاوم الفلسطيني الذي يمتشق بندقيته ويرسل قذائف الياسين والصواريخ من فتحات الأنفاق ويصوب نيرانها على أهداف صهيونية متعددة الأهداف ليحصد الرؤوس ويحرق أحدث العربات والدبابات الامريكية كعربة "النمر والميركافا", هذا جانب والجانب الآخر ان المقاومة بهذا الصمود والثبات منقطع النظير جعلت الكثير من المتابعين والمحللين السياسيين والعسكريين يقفون مشدوهين عن المستوى الذي وصلت اليه المقاومة وكيف تمكنت من إدارة معركة أدخلت أمريكا والدول المتحالفة معها الى جانب الاحتلال في مأزق وورطة صعب عليهم الخروج منها.
أخطر من الصواريخ
وعن اهمية الانفاق وفاعليتها أشار جيمس ستافريديس -وهو أدميرال متقاعد في البحرية الأميركية وقائد أعلى سابق لحلف الناتو الى إن مكمن الخطورة والعامل الأهم في الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة ليست في الصواريخ أو القوة البشرية التي تمتلكها حركة المقاومة الإسلامية (حماس)، بل الأنفاق المحفورة تحت الأرض بطول يتجاوز 643 كيلومتر.
بيئة معقدة
وأوضح جميس في مقال تحليلي نشره موقع وكالة بلومبيرغ للأنباء أن حركة حماس دربت قواتها على القتال في تلك البيئة المعتمة في جوف الأرض ذات الأبواب الواقية من الانفجارات، وذلك باستخدام نظارات للرؤية الليلية وأجهزة تحديد المواقع العالمي (جي بي إس)، وتكتيكات التمويه المتقن، ودربت قواتها أيضا على الاشتباك في فترة زمنية قصيرة للغاية. واستطاعت حماس بذلك أن تنشئ ساحة معركة مختلفة تماما عن ميادين القتال التقليدية على سطح الأرض.
ووفقا لكاتب المقال في تحليله، فإنه ليس من السهل تصديق أن حماس فعلت ذلك في "لحظة إبداع فريدة" تكشف عن نمط جديد من الحرب، فاستخدام الأنفاق في الحروب له تاريخ طويل.
والسؤال اليوم -برأي ستافريديس- هو كيف للتقنيات المتطورة التي ظهرت حديثا أن تعزز هذا النمط القديم من القتال؟ وماذا يتعين على الولايات المتحدة وحلفائها فعله؟
ويخلص ستافريديس إلى أن حرب الأنفاق "مرعبة"، والاستعداد لمواجهة المزيد منها يشكل عنصرا حاسما في ساحات القتال في القرن الحالي.
مصائد الموت
من خلال الحرب التي تدور رحاها في بقعة جغرافية ضيقة (غزة) المحاصرة من البر والبحر والجو استطاعت المقاومة الفلسطينية بقوة ايمانها وعزيمة رجالها الأشداء من صناعة النصر وتحقيق المستحيل من خلال التفوق الذي ظهر به المقاومون وهم يصطادون فرائسهم من جيش الاحتلال ويجرونهم الى عمق الانفاق تارة وتارة أخرى يفخخون فتحات الأنفاق التي التهمت المئات من عناصر العصابات الصهيونية وجردتهم من أسلحتهم وباتت غنيمة ترتد ضرباتها الى ظهور المحتلين.
ولذلك باتت شبكة الانفاق المعقدة في غزة تمثل الرعب والكابوس الذي جعل اكثر من ثلثي جيش الاحتلال مصابين بأمراض نفسية مستعصية ووسعت مراكز ودور العلاج النفسي في الأراضي الفلسطينية المحتلة.
أنفاق الـ"فيت كونغ"
حرب الأنفاق التي تديرها المقاومة اليوم في قطاع غزة أعادت إلى الأذهان أنفاق الـ"فيت كونغ" (الجبهة الوطنية لتحرير جنوب فيتنام) التي لعبت الأنفاق فيها آنذاك دورا حاسما في القتال، وأصبح التفوق الأمريكي العسكري محل نقاش بسبب تلك المتاهات الجوفية التي سمحت للقوات الفيتنامية بنصب الكمائن للجيش الأمريكي المرتبك فوق الأرض قبل أن تعاود القوات الفيتنامية الاختفاء.
وبذلك استطاعت المقاومة الفيتنامية أن تلحق بالأمريكيين خسائر كبيرة واربكتهم وجعلتهم يعيشون في خوف ورعب مما تقدمه المقاومة الفيتنامية وعلى الرغم كثافة القصف والتدمير إلا أنها الجيش الأمريكي في النهاية اجبر على الرحيل رغم التضحيات وحجم الخسائر التي راح ضحيتها 3 ملايين فيتنامي خلال 20 عاما وكان الانتصار حليف الفيتناميين , وما يختلف اليوم بين فيتنام وغزة هو العمق الدفاعي والجوار الذي مثل عاملا مساعدا للفيتناميين حيث كانت تقف روسيا والصين إلى جانبهم ضد الأمريكان, إلا أن المقاومة في قطاع غزة تمكنت من الوصول الى مستوى متقدم يفوق قدرات الفيتناميين في حرب الانفاق أولا من حيث مساحة الانفاق ففي فيتنام كانت مساحتها حوالى 270 كلم فيما وصلت مساحة الانفاق في غزة الى اكثر من 600 كلم وحققت المقاومة الفلسطينية بعملياتها البطولية الشجاعة الاعجاز والانجاز في شريط ساحلي ضيق لا يحظى بأي اسناد او دعم من قبل دول الجوار العربي المحيطة بقطاع غزة وفلسطين.
كمائن الموت
تشير التقارير التي نشرتها الكثير من وسائل الإعلام الى ان شبكة الأنفاق التي تستخدمها كتائب القسام تنقسم الى أنفاق تأمين وهجوم ودفاع وإمداد وقيادة، ويصل عمق بعضها إلى 30 مترا، ويتكون بعضها من سلسلة من الطبقات عالية التجهيز.
ولذلك فقد تحولت فتحات الأنفاق إلى كمائن موت الحقت بقوات الاحتلال الصهيوني خسائر فادحة.
وكانت صحيفة "يديعوت أحرونوت" العبرية، قد أوضحت أن جيش الاحتلال فوجئ بحجم شبكة الأنفاق في قطاع غزة، بعدما بدت أكبر بنحو 600% مما كان متوقعا.
يدرسها العسكريون
وفي العام 2016م وخلال تشييع عدد من "شهداء الإعداد" الذين كانوا يعملون في حفر أنفاق غزة، صرّح رئيس المكتب السياسي لحركة حماس السابق الشهيد إسماعيل هنية بأن المقاومة في غزة "صنعت أنفاقا للمقاومة ضِعْف أنفاق فيتنام التي تُدرَّس في المدارس العسكرية ويقرأ عنها العسكريون ويخطط من خلالها الإستراتيجيون".
حروب المستقبل
وفي ظل الفشل الأمريكي الصهيوني والهزائم التي طالت عصاباتهم- رغم كثافة القصف والتدمير الذي فاق من القنابل التي القتها أمريكا على هيروشيما بأكثر من خمسة اضعاف القنبلة الذرية بعد المتاهات والكمائن التي ضاع فيها جيش الاحتلال والمفاجآت المرعبة التي تباغته بين الفينة والأخرى على ايدي كتائب القسام ومختلف فصائل المقاومة الفلسطينية- باتت أمريكا وإسرائيل امام خيارات صعبة وفي مأزق كبير- بعد ما يقارب العام من حرب الاشباح وبعد عدم تحقيق أي من الأهداف التي سبق وان اعلن عنها الأرعن نتن ياهو وبعد تفوق الأنفاق على الصواريخ القنابل الامريكية الفتاكة واسلحة الإبادة- يرى محللون سياسيون أن انفاق غزة المرعبة تنبئ بأن حروب المستقبل ستتغير وقد تصبح المعارك في المستقبل اكثر تعقيدا وعلى الأرجح بأنها ستكون تحت الأرض, وبهذه النجاحات تكون المقاومة الفلسطينية قد نجحت في رسم خارطة جديدة بعد السابع من أكتوبر التاريخي ورسمت معادلة جديدة في خوض معارك الاستنزاف التي كبدت الاحتلال خسائر غير مسبوقة في تاريخ الصراع العربي– الإسرائيلي.