سيد شهداء طريق القدس ودرة شهداء فلسطين.. الشهادة أمنية القادة
د/ جهاد سعد *
ما أغلاك يافلسطين، وما أغلى الشهداء الذين سلكوا درب تحريرك بوعي كامل، وصدق نادر، كأن اصابع ايديهم الملطخة بالدماء تشير إلى أمر جلل لا نعرفه، أو علينا أن نكتشفه، وعنوانه الأبرز رفض الفصل بين غزة وفلسطين وبقية الأمة،
وقد تبين أنه أمر عظيم وهدف مقدس يستحق أن يقدم قائد لبناني وأممي فريد كالسيد حسن نصرالله (رضوان الله عليه)، روحه ودمه من أجله، أما العنوان الثاني فهو أن السبيل الوحيد لتحرير الأرض المقدسة هو الجهاد الحقيقي هذه المرة، والمقاومة التي لا ترضخ ولا تساوم مهما غلت التضحيات وهذا أمر يستحق أن يقدم قائد فلسطيني مميز كالمجاهد يحيى السنوار روحه ودمه من أجله، فهل يستحق الأمر كل هذه التضحيات؟
بلا شك ما يعجز عن رؤيته المراقب البارد تشير إليه القلوب الحارة، والفطرة السليمة، والعقول المستنيرة بمشاعل الشهداء التي تفتح الأفق، وتدل على الطريق، وتقود إلى مكمن العلة، وهوية الأعداء وطبيعة المعركة وعمقها ومداها وما أصدق الشهادة عندما تقود من "غرفة عمليات التجرد الكامل" من الأنا والذات.
1- معركة الشهيد القائد السيد حسن نصر الله (رضوان الله عليه) الوصل أو الفصل
عرضت على سماحة شهيدنا الأسمى السيد حسن نصرالله (رضوان الله عليه)، مغريات يمكن لأي زعيم سياسي أن يعتبرها غنيمة، "انتخاب" رئيس الجمهورية الذي اختاره وسماه، حصة وازنة للشيعة في الحكومة ومؤسسات الدولة، رفع الحصار الإقتصادي عن لبنان، حسم الخلاف على النقاط المتنازع عليها على الحدود وانسحاب إسرائيل من مزارع شبعا والقسم المحتل من بلدة الغجر، باختصار شديد تفضل وانتقل من مقاومة إلى حزب سياسي يحكم لبنان، مقابل ترك العدوان الأميركي- الصهيوني يستفرد بغزة، واترك عملية تصفية القضية الفلسطينية تسير حسب المخطط التدميري التهجيري الجهنمي، وادخل بكل أبعادك إلى قمقم الأقزام العرب الذين دخلوا نادي التطبيع والتنسيق الأمني، وتنعم بعضوية متأخرة في معهد حراس التبعية والتخلف الذين يعيشون على ابواب الخريطة المرسومة لحدودهم، فلا يتجاوزونها كالأصنام الواقفة في محراب الوثنية المعاصرة.
بالطبع لم يكن السيد الشهيد يرى أن مثل هذه العروض مجانية، وأنها مجرد محاولة لإنهاء "وحدة الساحات" التي عوضت غياب التكامل بين الدول العربية والإسلامية في الدفاع عن قضايا الأمة ومصالحها، وهنا يكمن الفارق الكبير بين أقزام الأمة وقياداتها.
فالأصل أن الخطاب القرآني موجه إلى الأمة وليس إلى الدول والحكومات، وعلى الدول التي تؤسسها الأمة مهما كانت ظروفها التاريخية أن تجهد للحفاظ على هذه الحقيقة القرآنية: "وإن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاتقون"، (المؤمنون،52) ولا يكون الحفاظ على حقيقة الأمة الواحدة إلا بخدمة مصالحها كجسم واحد، أو بلغة الفلسفة جوهر واحد، ليست الدول إلا عارض عليه.
وفي الوقت الذي يتعامل فيه الغرب مع الدول العربية والإسلامية ككائنات "وضيعة" من صنعه، يتصرف بخرائطها، واقتصادها ، وشعوبها، ومواردها كيفما يشاء، يتمسك الحكام المستبدون بالحدود والسدود وكأنها مقدسات أعلى من قدسية الامة الإسلامية...وهذا ما أسميه عملية "تصنيم الإنتماءآت" بدل احترامها.
إن المتابع لخطاب وسلوك السيد الشهيد حسن نصر الله (رضوان الله عليه) كان يرى بوضوح أنه عصارة تيار فكري إسلامي معاصر من الإمام الشهيد السيد محمد باقر الصدر(قدس سره) والإمام المغيب السيد موسى الصدر (أعاده الله ورفيقيه) إلى قائد اعظم ثورة إسلامية معاصرة الإمام الخميني (قدس سره) وصولا إلى السيد القائد الخامنئي (دام ظله)، وهذا التيار قد تميز بذكاء الاطروحة التي واجهت سكين الغرب الإستعماري التي مزقت صورة الامة إلى فتات (دول) حتى في المخيال العربي والإسلامي، فلم يعد المسلم قادرا على رؤية حقيقة وحدة الأمة في غمرة الحروب الناعمة والخشنة التي تسعى إلى تقسيم المقسم وتمزيق الممزق.
وخلاصة هذه الاطروحة: أن الإسلام الحضاري يشتمل على مساهمات كل من سكن البلاد الإسلامية، وهو يحترم كل الإنتماءآت القبلية والوطنية والقومية ولكنه لا يصنمها بل يوظفها في خدمة الأمة جمعاء، فعلى كل أمة وبلد ودولة وقبيلة أن تقدم ما يميزها عن غيرها في خدمة حقيقة وحدة الامة، وان تعبر الحدود والسدود عندما يحاول الغرب استفرادنا وتمزيقنا وإسقاطنا في الفتن المصنعة والمصطنعة. وبالتالي فإن تجسيد هذه الأطروحة في سيرة السيد الشهيد كانت تجعل اللبناني يراه قائدا وطنيا صادقا في الدفاع عن أرض وطنه وموارده ومصالحه، والقومي يراه مدافعا عن أقدس قضية عربية، والأممي الإسلامي يراه رمزا للقيادة العابرة للحدود من أجل مصلحة الأمة، وصاحب الضمير الإساني الحر يراه أيقونة قيم إنسانية حية..
يعرف قيمة هذه الأطروحة من عايش الصراع بين الأممي الإسلامي- والقومي العربي، والصراعات بين الوطنيين والقوميين والأمميين، تحت تأثير الثقافة الغربية والجهود المخابراتية والإعلامية والثقافية والسياسية التي حولت كل خلاف إلى اختلاف وكل اختلاف إلى معركة لا تنتهي على الطريقة الجاهلية.
لذلك لا يقتصر الأمر على مساندة الشعب الفلسطيني على قدسية هذه المساندة وأهميتها، بل هي معركة قوى الفصل والتجزئة والتمزيق من جهة مع قوى التحرر والتكامل والتوحيد من جهة أخرى.
قصرت الدول والحكومات العربية في القيام بدور تكاملي يخدم مصالح الأمة، فأنتجت الشعوب مقاوماتها وحركاتها التي تعوض خذلان الدول والحكومات للأمة والإسلام الحضاري والقرآن الكريم، وعلى رأس هذه المقاومات والحركات اليوم "محور المقاومة" الذي يحظى بدعم الجمهورية الإسلامية الإيرانية من المنطلق الإسلامي نفسه، وفي هذا المحور الذي أسميه "محور الوصل" في مقابل "قوى الفصل" قدم السيد الشهيد روحه مانعا لنجاح خطة استفراد فلسطين ولا أقول استفراد غزة وحدها فالجريمة ماضية في الضفة وستتوسع بقدر ما يسمح لها الخذلان والتآمر العربي والإسلامي والدولي.
قال تعالى في سورة الرعد: أَفَمَن يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُواْ الأَلْبَابِ (19) الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلاَ يَنقُضُونَ الْمِيثَاقَ (20) وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الْحِسَابِ (21).
2-معركة الشهيد القائد يحيى السنوار (رضوان الله عليه)، مفاوضات تقتلنا أم مقاومة تحررنا
لم يكن الشهيد يحيى السنوار شخصية عادية حتى بين المجاهدين من اقرانه في المقاومة الفلسطينية، بل هو أيضاً كان عصارة تجربة طويلة في سجون الإحتلال ومعرفة عميقة بطبيعة العدو ومخزون الإسلام والأمة، وتلميذ صادق لكبار المجاهدين وعلى راسهم الشهيد الشيخ أحمد ياسين (رضوان الله عليه)، لذلك يمكننا اعتباره مثقفاً مشتبكاً، وقد برهنت طريقة استشهاده أنه يعمل بما يعلم، ويهزم أكبر نظام أمني في العالم بالتواجد في المناطق التي لا يتوقعون وجوده فيها وهي ببساطة جبهات القتال، لذلك نعتبر ان خيار المقاومة الذي مارسه الشهيد حتى الرمق الأخير بدوره مبني على رؤية عميقة لطبيعة الصراع وآفاقه، مما يمكنا من رسم الإطار الفكري المناسب لأبعاد جهاده واستشهاده فنقول:
في ظلال هذه الحرب المستمرة التي شنت على الشرق والاسلام من بداية القرن الماضي والتي ازدادت استشراساً مع بدايات الألفية الثالثة على أثر أحداث 11 أيلول، وبعد خمس وسبعين عاماً على انشاء وزرع وفرض الكيان الصهيوني على حساب الشعب الفلسطيني المظلوم، أقصى ما يعرضه علينا الغرب وربيبته اسرائيل هو التفاوض، وهناك فرق كبير بين التفاوض والحوار، فبحسب التجربة والعلم الدبلوماسي، أصبح من المعلوم والمسلم أن التفاوض هو آلية حرب على الطاولة تهدف الى تكريس المكاسب التي حققتها الحرب على أرض الواقع.
التفاوض عملية يكمّل فيها الذكاء الدبلوماسي ما أنتجه التفوق العسكري بهدف تحويل المكاسب الآنية الى مكاسب مؤبدة غير قابلة للتغيير حتى لو تغيرت بشكل نسبيّ توازنات القوى.
ولقد برهنت مفاوضات كامب دايفيد مع المصريين والفلسطينيين أن تقدم الذكاء الدبلوماسي الغربي وانبهار المفاوض العربي بمن يجلس أمامه على الطاولة، أدى الى تكبيل مصر ليس فقط من الناحية العسكرية، وانما أيضاً من الناحية السياسية والاقتصادية بسبب ارتباط القرار السياسي المصري بذيول المعاهدة والتزاماتها.
أما في فلسطين فقد شهدت الساحة الفلسطينية انقساما حاداً بسبب اصرار بعض القيادات السياسية على المراهنة العبثية على تحصيل مكاسب من المفاوضات، فيما تتغير توازنات القوى على الأرض لمصلحة اسرائيل، مما يدل على نوع من الجهل او من التجاهل لأصول علم التفاوض، الذي لا يكف عن تأكيد حقيقة مرة تفيد بأنك: لا تستطيع أن تنتزع من عدوك مكسبا على الطاولة اذا لم تكن مؤهلاً لانتزاعه بالقوة على الأرض.. وهذا ما استفدناه من التجربة اللبنانية وقبلها الفيتنامية والجزائرية و مؤخرا اليمنية وغيرها من التجارب المتألقة في تاريخ الحروب التحريرية المعاصرة.
وهنا يبرز الفارق الأساسي بين التفاوض والحوار، فالتفاوض ممكن بين الأعداء، أما الحوار بينهما فمستحيل، لأنه لا يكون الا بين ندّين هما الذات والآخر، مع احترام متبادل يمنح مصالح كلا الطرفين فرصة للتحقق عن طريق الحوار.
فاذا كانت اسرائيل لا تعترف اصلاً بوجودك، فإنه ليس أمامك الا أن تفرض نفسك عليها. واذا كان الغرب لا يرى الآخر الا من موقع الاستكبار، فإن أصل الحوار وشروطه ليست متوفرة في ظل هذه المعادلة المجحفة بحق العرب والمسلمين.
من أخبث الألعاب اللغوية التي تمارس اليوم هي تحويل العدو الى آخر، وتصوير التفاوض على أنه حوار، مما يمنح القتل مشروعية الاستمرار طالما أن التفاوض المسمى حواراً يتغذى من دم القتلى والشهداء.
إن أطروحة المقاومة قائمة أولا على الفصل بين التفاوض والحوار لكي يتعرى التفاوض من مشروعية الحوار، ولتتهيأ الظروف الموضوعية لحوار ندي مع الآخر الذي يعترف بنا كآخر ويحترمنا كذات حضارية، ولكي تكون هناك حرب مكشوفة مع العدو، كاشفة لمكر السياسة وألعاب اللغة التي تلبس حربها علينا لبوس "عملية السلام" المستمرة حتى آخر فلسطيني، وآخر زيتونة و بعد بناء آخر مستوطنة.
إن المصرّين على مقولة التفاوض مع اسرائيل من دون أي مكسبٍ ملموس الا للعدو، من المستبعد أن يكونوا أغبياء ولهذا فهم شركاء، شركاء في دم المقتولين يومياً باليد الاسرائيلية في فلسطين التاريخية.
المقاومون وحدهم هم الذين يدركون بعمق ويعبّرون بصدق ووضوح عن العلم بأهمية توازنات القوة في عالم تحكمه في كل مجالاته توازنات القوة، والمقاومون وحدهم يعلمون أن كسر معادلة الحرب- التفاوض وتحرير الأراضي المحتلة تمثل مقدمة بديهية لتحرير فلسطيني و لحوار حضاريّ بين الشرق والغرب.
ثم أن التفاوض يسير جنبا إلى جنب مع الفتنة الداخلية، والإنقسام السياسي والاجتماعي، لأن المفاوضين لا يعبرون عن الإرادة الشعبية، فهم مدفوعون بحكم خيارهم التفاوضي إلى الإستقواء بالأمريكي والإسرائيلي بسبب هشاشة قاعدتهم الشعبية، وإلى قمع المعارضة التي تعبر عن الإرادة الشعبية الحرة والمتحررة من هالة العدو الأميركي- الإسرائيلي.
أما خيار مقاومة العدو على الحدود ومحاورة الآخر في الوطن فيؤسس للسلام الداخلي، ويحول إسرائيل إلى عبء على الغرب يجبره على الإعتراف بأهل الشرق الذين أدمن ظلمهم واضطهادهم ونهب ثرواتهم والتهوين من شأنهم.
ومن هنا نجد أن قيادة المقاومة مستعدة للحوار حتى الشهادة في الساحة الداخلية، وقد سقط لها بالفعل شهداء في مسيرة الحوار والسلام الداخلي، فيما هي مستعدة للقتال حتى الشهادة على الحدود وقد قدمت نهرا من الدماء في هذا السبيل، وأثمر الدم كشفا لنقاط ضعف العدو، مع كل انتصار تحقق في لبنان وفلسطين، نعم كشفت هشاشة إسرائيل، ويمكننا أن نؤكد اليوم أكثر من أي وقت مضى أن الجبهة الداخلية التي تمثل الخاصرة الرخوة في هذا الكيان الغاصب قد دخلت الحرب، وأن مشهد الجيش الذي يقاتل على الحدود فيما يتمتع السياح والمستوطنون الغاصبون بشمس فلسطين ومائها وخضرتها قد ولى إلى الأبد، إن إسرائيل كلها اليوم هي خط التماس ونقطة الإلتحام وسرطان الخوف ينهش وحدتها الداخلية حتى ولو توقفت العمليات العسكرية، وعندما تسقط الجبهة الداخلية بالإنهيار العصبي، ويفشل الجيش على الحدود ماذا يبقى من إسرائيل؟.
دمنا مهدور مجانا إذا فاوضنا، ومثمر نصرا محققا إذا قاومنا، فليحص دعاة الصلح مع إسرائيل الشهداء المظلومين الذين قتلتهم "عملية السلام" منذ انطلاقتها، ليحص المشاركون في اتفاقية أوسلوا عدد شهداء فلسطين من سنة 1993 الذين كانوا وما زالوا يقتلون مجاناً بلا أي تقدم في القضية، مقابل شهداء المقاومة، وما أحدثه طوفان الأقصى من مكاسب للقضية في المنطقة والعالم.
إن لغة الأرقام تفصح عن صوابية خيار المقاومة حتى بالمعنى البراغماتي للسياسة، وتظهر بوضوح أن إسرائيل تخيرك بين موتين وليس بين موت وحياة، فهل هذه هي ثقافة الحياة؟.
ومع الزمن صغرت أهداف التفاوض إلى مستوى إزالة حاجز إسرائيلي من الضفة الغربية، وكبرت أهداف المقاومة من إزالة الإحتلال إلى مستوى إزالة إسرائيل من الوجود.
إن الحكومة التي تليق بفلسطين المنتصرة اليوم ليست تلك التي يرضى عنها الأميركي أو ما يسمى مكراً بالمجتمع الدولي، بل هي الحكومة التي يرضى عنها الشعب الفلسطيني الحي وتعبر بصدق عن النور الساطع الذي بزغ من دماء الشهداء وهمة الشباب التواق إلى الحرية في كل فلسطين التاريخية.
الشهيد السنوار يمثل هذه الحكمة العميقة التي يعبر عنها خيار المقاومة، رغم كل ما يتوهمه البعض تحت ضغط المجازر والجرائم التي يرتكبها العدو الأميركي- الصهيوني.
قال تعالى: انفِرُواْ خِفَافًا وَثِقَالاً وَجَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ (التوبة،41).
* باحث في الشؤون الاستراتيجية