غزة التاريخ.. بين مخططات الاستيطان ومؤامرات التهجير ! (1)
مازالت الحكومات الصهيونية والميليشيات الاستيطانية متمسكة بسياستها الاستيطانية وتسعى لتعميقها وتوسيع مداها بعد معركة الطوفان , وهو ما يؤكد على أنه لا توجد نية لدى المحتل للتوقف عن الاستيطان بكل الوسائل الممكنة , حتى إن كان عن طريق الإبادة والتهجير .
لا يوجد لدى الكيان الصهيوني نية لحل الصراع أو مناقشة حل الدولتين بحسب القرارات الدولية ممثلا بقرارات الأمم المتحدة , فإي محاولة لحل الصراع تبدأ من الاعتراف بملكية الأراضي لسكانها الأصليين , وهو ما لا يعترف به المحتل الذي لن يتوقف سوى حين يحتل جميع أراضي فلسطين
علي الشراعي
حظيت مدينة غزة- والتي كان يقطنها غالبية عربية تتمتع بحكم ذاتي بجانب حدود الدولة الإخمينية ) في القرن الرابع ق . م - بموقع استراتيجي مفصلي على خط تجارة البخور والعطريات مما جعلها عرضة للأطماع الخارجية إلى اليوم وهي تتعرض لجرائم ضد الإنسانية على ايدي كيان العدو الصهيوني الغاصب - فالجزيرة العربية شريانها الرئيسي كان قديما البحر الأوساني وهو ما عرف حاليا بالبحر الأحمر ولطالما كان بحر سيادي تحت سلطة الممالك اليمنية القديمة لقرون زمنية قبل الميلاد . مما استوجب تواجد الحاميات اليمنية من قبائل وجيوش على امتداد بحار وموانئ الممالك اليمنية خصوصا مدينة غزة التاريخية . فهذه الاستراتيجية اخذها الرومان من العرب عندما كان يستخدمها الملك (سبأ الأكبر) وسار عليها ملوك سبا وحمير لاحقا وهي رسم سيناريوهات الغزو والأستيطان خارج جنوب الجزيرة العربية , فالملك فسبأ الأكبر أول من أخرج القبائل اليمنية القديمة خارج اقليمها الجغرافي وذلك لحماية طرق التجارة والمناطق الاستراتيجية التي كانت تخضع لحكمه بعد فرض نفوذه وسيطرته عليها وهذه الاستراتيجية أصبحت متبعة لكل الملوك والممالك اليمنية من بعده.
حملة يمنية
عند تتبع للنقوش اليمنية المسندية القديمة وجد تاريخ مدينة غزة وأهميتها لدى اليمنيين إذ كانت تتبع إداريا ممالك اليمن القديم اهمها مملكة معين ثم قتبان واخرها مملكة سبأ فمنذ 3000 عام توجهت حملة عسكرية من اليمن لنصرة غزة . فقد تم صدور قرار ملكي في ذلك الوقت صدر من الملك السبئى ( يدع ال بين بن تبع أمر ) وقضى بتعيين القائد العسكري ( صباحه بن عم شفيق بن رشوان النشقي ) لقيادة حملة عسكرية مسلحة بكافة كتائبها للمشاركة في الدفاع عن غزة ومناطق أخرى على أن يتم اعتماد 1000 عملة ذهبية أضافة إلى صرف الملابس العسكرية وتخصيص بعض الأراضي لكافة المشاركين بالحملة عند عودتهم منتصرين . وقد حقق القائد اليمني (صباحه النشقي ) انتصارا في معركة غزة وفي كوش واكاد ودادان ومناطق أخرى .
لماذا غزة ؟!
ذكر ياقوت الحموي في معجم البلدان تفسيرا لكلمة غزة , تقول العرب : قد غز فلان بفلان , وأغتز به إذ اختصه من بين أصحابه , ومعنى ذلك أن الذين بنوا غزة قد اختصوا هذا الموقع لبنائها واعمارها لأهميتها واتصالها بمنافذ اليمن البحرية من بين المواقع الأخرى الواقعة على شاطئ البحر الأبيض المتوسط والتي كانت تتجاور فيها مع الكوشيين والأشوريين وهؤلاء العرب هم المعينيون القدماء, ولأنها كانت تعتبر الميناء الرئيسي للصادرات التجارية من اليمن إلى العالم آنذاك لذلك كان من الواجب حماية غزة للمصالح الاقتصادية , والأهم من ذلك الروابط الاجتماعية التي كانت بين اليمنيين وأهل غزة وهي روابط النسب حيث تفيد عشرات النقوش اليمنية القديمة عن زواج غالبية التجار اليمنيين من نساء غزة ومذكورات في النقوش وبالاسم , فكان لابد ان يستنجد أهل غزة باليمنيين انطلاقا من الروابط الاجتماعية . وكنتيجة لموقعها الاستراتيجي تظل عرضة للأطماع والمؤامرات الاقليمية والخارجية للسيطرة عليها عبر التاريخ الأمر الذي جعلها محل أطماع القائد الإسكندر المقدوني لبدء الحصار عليها في خريف 332 ق. م .
حصار ومقاومة
بعد معركة نهر ايسوس عام 333 ق. م في أسيا الصغرى وهزيمة الفرس امام الاسكندر المقدوني , بعد ذلك فتحت أبواب المدن الفينيقية على طول الساحل باستثناء صور التي حاصرها وأسقطها . وتوجه قائده برمينيون ناحية دمشق التي دعته إلى تسلم خزائنها وفتحت له الأبواب وسلمت دون قيد أو شرط . فحينما تقدم الإسكندر المقدوني الكبير ابن فيليبس الثاني بعد اسقاطه للإمبراطورية الفارسية وسقوط المدن الفينيقية . ووصل الإسكندر إلى غزة فامتنع صاحبها باتيس الخصي الأسود ( جاء في كتاب معجم البلدان والقبائل اليمنية لإبراهيم المقحفي أن باتيس بفتح الباء وكسر التاء وتسكين الياء منطقة في شمال جُعار من مديرية خنفر وأعمال محافظة أبين ). عن تقديم الطاعة معتمدا في ذلك على مناعة غزة وعلى رجاله العرب الذين شدوا أزره ودخلوا معه إلى المدينة ليحموا حصونها . فأقام الإسكندر الأبراج العالية , وهجم على الأسوار والأبواب فقابله العرب بهجوم معاكس شديد . فتراجع المقدونيون , وأحرق العرب الأبراج وأصيب الإسكندر الأكبر وكاد أن يقتل على اسوار مدينة غزة .
أسطورة قائد
بعد أشهر من الصمود الاسطوري وغير المتكافئ مع الخصم سقطت مدينة غزة . بل أن الحقيقة ان غزة لم تسقط وإن دخلها الأسكندر إلا أن أهلها ظلوا يقاومون بشراسة - وهو ما يثبت عزتهم اليوم ومقاومتهم للعدوان النازي الصهيوني - أما مصير القائد باتيس فقد بقى بكل شجاعة يحارب الغزاة عند اجتياح المدينة حتى أثخن جسده بالجروح واختلطت دماؤه بدماء أعدائه الذين قتل منهم كثير . وعند أسره احضر للإسكندر المقدوني لكن القائد اليمني (باتيس) رفض الركوع والخضوع للملك المقدوني فأستشاظ الإسكندر غضبا من عزة نفس القائد باتيس ليأمر بقتله بطريقة وحشية . ( حصار الإسكندر لمدينة غزة استبسال أهلها بقيادة باتيس , ورقة تاريخية , للباحث عاصم بن الميسري ) .
حامية مصر
ومع سقوط غزة حامية مصر وقلعتها الشمالية تابع الإسكندر زحفه نحو مصر فوصل وادي النيل في أواخر سنة 332 ق . م , واكتشف تعاظم التجارة المارة عبر البحر الأحمر بين الشرق والغرب وأهمية المواد الأولية الموجودة في أفريقيا وشاهد كثرة البضائع في مستودعات مدينة غزة , فأراد إنشاء مدينة الإٍسكندرية خاصة بعد القضاء على المرفأ الفينيقي الأهم على البحر المتوسط ميناء صور فكانت فكرة بناء الإٍسكندرية . ومع كل غزو إذا سقطت غزة البوابة الشمالية لمصر وحاميتها فإن مصر تدرك ان الخطر سيصل إليها . وهذا ما حدث بعد اعلان الكيان الصهيوني الغاصب لفلسطين عام 948م, وتحرك الجيوش العربية ومنها جيش مصر ومع نكستهم ظلت مصر تحتفظ بمدينة غزة لأهميتها الاستراتيجية لها ولأمنها القومي ومع نكسة حزيران 1967م, واحتلال الكيان الصهيوني لمدينة غزة فتحت له الطريق لسيناء ليصل إلى الضفة الشرقية لقناة السويس تحقيقا لشعار دولتهم من النيل إلى الفرات فهل تدرك مصر اليوم الخطر عليها في ظل العدوان على غزة منذ عام لتهجير سكانها و تنفيذ مشاريع بناء المستوطنات الصهيوني ؟!
سياسة الاستيطان
أن الاستعمار الاحتلالي يقوم أولا بتقسيم المكان إلى أجزاء منعزلة ومراقبة . وبالتالي يستلزم الأمر أن يهيمن المستعمر على المكان الخاص بالجماعة المستعمرة التي ترسم هي حدودها ومجالها , ويسيطر عليه باستخدام القوة المجردة والرمزية والتكرارية . فالحركة من قرية أو بلدة إلى أخرى هي ممارسة ( حيزية ) ينبغي أن تقع ضمن سيطرة الاحتلال . حيث تسعى سلطات الاحتلال إلى تقسيم غزة , كما تم تقسيم الضفة الغربية إلى ثلاثة أقسام إدارية -وفق اتفاقية أوسلو عام 1993م - هي مناطق ( أ , ب , ج ) بل إن تقسيم الضفة تم عن طريق تمركز وانتشار المستوطنات التي أدت إلى تمزيق الأراضي الفلسطينية وإحكام محاصرة التجمعات الفلسطينية التي أصبحت متناثرة ومبعثرة وقابعة تحت السيطرة الأمنية والعسكرية والطرق الالتفافية التي تهدف إلى استيطان وضم هذه المناطق .فوفقا لبعض الصحف مثل صحيفة ( وول ستريت جورنال ) الأمريكية , فإن قوات الاحتلال الصهيوني تسعى لتنفيذ خطة لتوسيع طريق في وسط غزة يُسهل من عملياتها العسكرية , ويمثل هذا جزءا من خطط جيش الاحتلال للحفاظ على السيطرة الأمنية على القطاع الفلسطيني حتى بعد انتهاء العدوان , ويمتد الطريق إلى مسافة تبلغ نحو 8 كم من حدود الاحتلال إلى ساحل القطاع , حيث يُقسم القطاع إلى قسمين شمالا وجنوبا ويسمح هذا الطريق لقوات الاحتلال بمواصلة التحرك بسرعة وبشكل آمن حتى بعد انسحاب معظم قوات الاحتلال من القطاع .
ما بعد 7 أكتوبر
بدأت دعوات ومخططات الاستيطان في غزة بالظهور بعد معركة طوفان الأقصى , فقبل 7 أكتوبر2023م , كانت مدينة غزة تتمتع بحكم مستقل بقيادة حماس , وبالتالي كانت بعيدة عن مخططات الاستيطان , إلا أنه بعد 7 أكتوبر ورغم عدم وجود أي انتصارات حاسمة من قبل العدوان الصهيوني , استبقت جهات عدة الأحداث تطالب بمشاريع ومخططات استيطانية على أراضي غزة , وتهجير سكانها عبر ابادة جماعية بعد رفضهم التهجير القسري . بعد أيام من بدء العدوان الصهيوني على قطاع غزة , أعلن وزير التراث الصهيوني ( عميهاي إلياهو ) : (أنه يجب على إسرائيل إعادة احتلال قطاع غزة بالكامل ) ,وكان هذا الوزير نفسه قد تصدر عناوين الأخبار في نوفمبر 2023م عندما أثار إمكانية إسقاط قنبلة نووية على قطاع غزة لوضع حد لحركة حماس . وفي ديسمبر 2023م , أظهر استطلاع للرأي أجرته الجامعة العبرية في القدس أن 33% من المستطلعين يؤيدون إعادة احتلال قطاع غزة , واستعادة المستوطنات التي تم تفكيكها في عام 2005م.
إعادة المستوطنات
في الحادي عشر من ديسمبر 2023م , عقد ائتلاف من حركات المستوطنين مؤتمرا لمناقشة خطة عملية لإعادة إنشاء المستوطنات اليهودية في قطاع غزة . وقام منظموه بإعداد قائمة بالعائلات التي تعهدت بالاستقرار في مشروع استيطاني محتمل في غزة . ثم في الثامن والعشرين من يناير 2024م , عٌقد مؤتمر في مدينة القدس بعنوان ( الاستيطان يُحقق الأمن والنصر ) وقد نظمت هذا المؤتمر جمعيات استيطانية وأحزاب اليمين المتطرف الصهيوني بمشاركة 12 وزيرا من حكومة الاحتلال الصهيوني , ونحو 14 نائبا من الكنيست . وقد وقع الوزراء وأعضاء الكنيست وغيرهم من المشاركين عريضة سميت ( معاهدة النصر وتجديد الاستيطان في قطاع غزة وشمال الضفة الغربية ) بداعي أن ذلك وحده ما سيحقق الأمن للكيان الصهيوني . وحمل بعض الناشطين لافته كُتب عليها : ( فقط الترانسفير هو الذي سيجلب السلام ) , بينما ظهرت على الشاشة المركزية في قاعة المؤتمر خريطة قطاع غزة مع موقع المستوطنات الجديدة التي ترغب قيادات المستوطنين في إقامتها شمال القطاع , بما فيها مستوطنة جديدة يتصورها المنظمون بدلا من مدينة غزة التي دمرت اليوم إلى حد كبير . ورغم أن المؤتمر قد لاقى معارضة قوية وبالذات من خارج الكيان الصهيوني إلا أنه من المهم عدم الاستخفاف بدلالات هذا المؤتمر , ذلك أن القوى التي نظمته عازمة على تحقيق مشروعها الاستيطاني , وترى في العدوان على غزة فرصة وأملا لتحقيقه . ويُمكن لها أن تحقق هدفها عن طريق استخدام سياسة فرض الأمر الواقع والذي تتبعه حركة الاستيطان في الضفة الغربية منذ سنوات , أي أنها ستسعى لفرض وجودها عن طريق التمركز في الأراضي أو في مواقع الجيش في بؤر استيطانية ومجموعات صغيرة , ثم تمارس الضغط السياسي على الحكومة وفي الكنيست كي تُشرعن وجودها كأمر واقع وتسنه بقوانين .