
غزة التاريخ.. بين مخططات الاستيطان ومؤامرات التهجير ! (2)
أهداف حكومة نتنياهو الإرهابية المعلنة خلال مشاركتها بقيادة أمريكا بشن عدوانهم على غزة هو القضاء على حماس واستعادة الأسرى , وألا تصبح غزة مصدر تهديد لأمن الكيان الصهيوني من جديد ولكنها تخفي أكثر مما تعلن ,
ألا وهو التهجير وإعادة احتلال غزة ورفض أي حلول سياسية للقضية الفلسطينية الأساس وخاصة حل الدولتين وفقا للقرارات الدولية .
إن الاستراتيجية العسكرية الصهيونية بعدوانها على غزة قامت بوضوح وصراحة على الانتقام الوحشي والإرهاب والإبادة وتدمير كل صور الحياة ومقوماتها المدنية في غزة من بنية تحتية أو كافة أنواع الخدمات التعليمية والصحية والإغاثية والإدارية . واستمرت هذه الاستراتيجية على نهجها الأساسي دون أية استجابة لضغط الرأي العالمي أو المحاكمة أمام محكمة العدل الدولية أو الضغوطات الداخلية أو الخارجية والتي لم تكن من أجل تغيير الأهداف ولكن لتغيير الوسائل والتكتيكات حيث اجتمع الكل على الانتقام وحماية أمن دولة الكيان الصهيوني واستعادة هيبته العسكرية
علي الشراعي
مدينة يمانية
لم يكن غريبا أن تحتضن الشام أهل اليمن زمن نشر الإسلام , ولا يصح القول فتحها لأن الساكن والوافد زمن الإسلام كانوا كلهم عرباً يمانية , حتى أن العالم أحمد البيهقي في كتابه ( مناقب الشافعي ) كان يعد مدينة غزة أنها يمانية وذلك في معرض استدلاله بأن الإمام الشافعي معدود في أهل اليمن بقوله : ( ومولده بغزة فإن كانت من الأرض المقدسة فعدادها في اليمن لنزول بطون اليمن بها حين دخلها اخوانهم اليمانيون من المسلمين ولا يصح القول بالمصطلح الفاتحون فهذا مصطلح خاطئ فلم يفتح المسلمون غزة ولا الشام بل دخلوا عند اخوانهم ناصرين ) فمدينة غزة وبقية مدن فلسطين الأخرى كما جاء بالمصادر الفلسطينية فإن العرافين بالأنساب للعشائر الفلسطينية ينسبون الكثير من العائلات الفلسطينية لأصولها اليمانية بل إن جبل ( الجرمق) الذي يقع شمال غربي مدينة صفد بفلسطين والذي يعتبر من أعلى جبال الشام سُمي باسم قبيلة يمنية نزلت شمال فلسطين وجنوب لبنان قديما وتدعى بالجرامقة .
رفض الانصهار
في عهد الاحتلال البيزنطي كانت المشكلة في غزة مشكلة عرقية بين العرب والرومان الأرثذوكس وليس بين أهل غزة والمسلمين من اخوتهم العرب . فلو تتبعنا تاريخ غزة لوجدنا : في العهد البيزنطي ومن سنة 312م , حاولت المسيحية فرض وجودها في مدينة غزة , غير أن المدينة رفضتها صونا للتنوع الديني فيها واستمرت المقاومة لقرن من الزمن . وفي مطلع القرن الخامس الميلادي أكرهت مدينة غزة على التحول إلى المسيحية , حين قامت الدولة البيزنطية بهدم معابد جميع الأديان غير المسيحية وما حلت سنة 420م , إلا وغزة خالية إلا من الكنائس المسيحية فقط . وكان الإصرار البيزنطي على تحويل غزة إلى المسيحية لكونها واحدة من أهم عواصم التعليم عند العرب ما سيساهم بتسريع تحويل العرب إلى المسيحية, أضافة إلى موقها الاستراتيجي كونها ميناء هاماً على البحر المتوسط وايضا تعد القاعدة المتقدمة لحماية مصر وبوابتها الشمالية .
رمز مقاومة وصمود
في عام 636م أصبحت غزة تحت الحكم الإسلامي لأهميتها لفلسطين وبلاد الشام ومفتاح مصر غير أنها بقيت مدينة مسيحية حتى القرن العاشر، ومع الحملات الصليبية مطلع القرن العاشر الميلادي والتي ساقتها دول وممالك أوروبا تحت شعار الصليب لاحتلال بيت المقدس من المسلمين، فقد ساهمت تلك الحملات بتحويل أهل غزة المسيحيين إلى الإسلام نكاية بالصليبيين الأجانب، وبدأت عمليات التحول إلى الإسلام بعد عام 1100م, بعد سقوط غزة تحت حكم (بالدوين الأول) واستمرت موجات التحول الجماعي إلى الإسلام حتى بلعت أوجها عام 1134م, ثم وصلت سنة 1154م, وقد صار الإسلام رمز مقاومة الاحتلال الصليبي لغزة، وفي سنة 1191م, كان الإسلام قد صار هوية مدينة غزة, ونسيت عهدها المسيحي تماما, بينما كانت تباهي بالانتماء إلى الدولة الأيوبية والخلافة العباسية ويذكر الدكتور عبدالعزيز الدوري في كتابه (تاريخ العرب الحديث والمعاصر) أن (تحول بعض مسيحيي غزة إلى الإسلام في فترة حكم بالدوين الأول كان تعبيرا عن رفضهم لحكم الصليبيين, بسبب المذهب الديني والجنس العرقي الذي هو خلاصة تاريخ الصراع على أرض فلسطين ورغبتهم في التخلص من الاضطهاد الذي كانوا يتعرضون له)، وهكذا فقد كان تحول بعض مسيحيي غزة إلى الإسلام في فترة حكم بالدوين الأول ظاهرة سياسية واجتماعية تعكس رفضهم لحكم الصليبيين ورغبتهم في التخلص من الاضطهاد الذي كانوا يتعرضون له, وهذا هو محو الصراع الفلسطيني لمدينتي غزة والقدس ومدن فلسطين الأخرى على مر التاريخ، فاليوم مساندتنا ووقوفنا الى جانب اخواننا في غزة واجب ديني وانساني حيث تجمعنا علاقة أنساب وقرابة ودين وهم من أشد الأقوام شراسة وشجاعة على مر التاريخ وليس امام الكيان الصهيوني، وخير ما شهد به القرآن الكريم في عهد موسى حينما أتى ببني إسرائيل من مصر ورفضوا أن يدخلوا غزة كونها أول مدينة تقابلهم فقالوا ان فيها قوماً جبارين، في عام 1250 قبل الميلاد، كذلك قاومت جيوش الاسكندر المقدوني عام 332 ق.م، فالخلاصة أن محور الصراع هو نفسه يتكرر في كل زمان في تاريخ مدينة غزة وفلسطين ما بين العرب والصليبيين والصهاينة اليوم وخلفهم العالم الغربي المسيحي.
التآمر الاستعماري
في التاريخ الحديث والمعاصر وإلى اليوم, فخلال الحرب العالمية الأولى (1914- 1918م), تآمر الغرب الاستعماري على فلسطين من خلال وعد بلفور 1917م, من قبل بريطانيا بمنح فلسطين وطن قومي لليهود, لتكافئ بريطانيا العرب الذين وقفوا معها خلال الحرب ضد الدولة العثمانية والمانيا من خلال وعد بلفور واتفاقية سايكس- بيكو واحتلال بريطانيا لفلسطين باسم الانتداب، وبعد الحرب العالمية الثانية (1919-1945م), ومع وقوف العرب للمرة الثانية مع بريطانيا وامريكا اعترف العالم الغربي المسيحي وعلى رأسهم أمريكا وبريطانيا التي مهدت خلال ما بين الحربين بقيام الكيان الصهيوني اللقيط في فلسطين في منتصف مايو 1948م, لتبدأ نكبة فلسطين، وفيما يخص مدينة غزة فبعد نكبة الجيوش العربية السبعة التي دخلت لتحرير فلسطين من ايادي الكيان الصهيوني وانهزمت عام 1948م, وحتى لا تسقط غزة في ايدي الصهاينة تدخلت مصر وظلت غزة تحت حكم مصر باعتبار غزة خطاً متقدماً لحماية أمنها القومي, وظلت تحت سيطرتها حتى نكبة حزيران 1967م.
الشتات الفلسطيني
وفقا لجهاز الإحصاء المركزي الفلسطيني وحتي عام 2023م, بلغ عدد الفلسطينيين الموجودين في أراضي ما يعرف اليوم بدولة فلسطين (الضفة الغربية وغزة) حوالي 5 ملايين و480 ألف نسمة, وهو ما يشكل قرابة 38% من نسبة الفلسطينيين الذين بلغ عددهم 14 مليون و500 ألف نسمة حول العالم، ما يعني أن 62% من الفلسطينيين يعيشون خارج أراضيهم, وهو وضع يعود بشكل أساسي إلى الحدثين الأساسين في تاريخ القضية الفلسطينية اللذين رسما الواقع على الأرض اليوم، حرب النكبة عام 1948م، وما تبعها من حملات تهجير قسري حتى عام 1949م, وحرب النكسة الخامس من يونيو 1967م, اعتمدت العصابات الصهيونية وإلى اليوم نفس السياسة وهذا ما نشهده في عدوانها على غزة في عملية تهجيرها للفلسطينيين في عام 1948م, بشكل أساسي على مجموعة من المجازر التي ارتكبها بحق بعض القري الفلسطينية, وحاولت من خلالها أن ترهب الفلسطينيين وتدفعهم إلى مغادرة أراضيهم، وتعد مذبحة قرية (دير ياسين) الفلسطينية في ابريل 1948م النموذج الأساسي في هذا السياق, التي تعتبرها العديد من الدراسات حدثا مفصليا في تهجير الفلسطينيين عام 1948م, واستمر الاحتلال الصهيوني بتهجير الفلسطينيين بوضوح إلى غاية منتصف الخمسينيات من القرن الماضي، اتجه الفلسطينيون المهجرون في أكثر من اتجاه, ابتداء من الضفة الغربية وغزة وصولا إلى الأردن ولبنان وسوريا ومصر والعراق, وهي المناطق التي تلقت العدد الأكبر من اللجوء الفلسطيني إلى جانب مجموعات عديدة لجأت إلى مختلف دول العالم، فالأردن تضم اليوم أكثر من أربعة ملايين فلسطيني مُجنس ولاجئ, فيما تضم جزر الكاريبي البعيدة عن منطقتنا العربية بضعة آلاف من الفلسطينيين.
خريطة الطريق
بعد نكبة حزيران 1967م, وقعت مدينة غزة تحت الاحتلال الصهيوني طيلة 38 عاما, ففي ابريل 2003م, تبنت اللجنة الرباعية الدولية (الأمم المتحدة وامريكا والاتحاد الأوروبي وروسيا ما يسمى (خريطة الطريق) لحل الصراع الفلسطيني- الصهيوني, والتي تكونت من ثلاث مراحل تنتهي مرحلتها الثالثة في سنة 2005م, بإقامة دولة فلسطينية، لكن رئيس وزراء الكيان الصهيوني آنذاك (شارون) تحفظ على تلك الخطة، وطرح في سنة 2004م, بغية الالتفاف على فكرة إقامة دولة فلسطينية ومواصلة الاستيطان في الضفة الغربية, مشروعا يرمي إلى (فك الارتباط) بقطاع غزة ويقوم على اساس انسحاب القوات الصهيونية من القطاع وتفكيك المستوطنات اليهودية الـ21 القائمة في غزة, على أن يحفظ الكيان الصهيوني بالسيطرة على حدود قطاع غزة ومعابرة ومجاليه الجوي والبحري, ويظل معتمدا على الكيان الصهيوني بشأن التزود بالمياه والكهرباء، ليتم تفكيك المستوطنات اليهودية من قطاع غزة ورحيل آخر مستوطن صهيوني من غزة في 22 اغسطس 2005م, غادر آخر جندي صهيوني من قطاع غزة في 12 سبتمبر 2005م.
ضربات المقاومة
حقيقة إن الانسحاب الصهيوني من قطاع غزة عام 2005م, جاء تحت اشتداد ضربات المقاومة للاحتلال الصهيوني بقيادة حركة حماس, فمع اعتقاد الكيان الصهيوني باغتياله لقائد الحركة الشيخ أحمد ياسين في مارس 2004م, وبعد شهر اغتال عبدالعزيز الرنتيسي الذي عين بديلا لأحمد ياسين لقيادة الحركة, بإن حركة المقاومة الإسلامية حماس قد ضعفت وتناسي المحتل الصهيوني أن منطق التاريخ وحقيقته يقول: إن مقاومة الشعوب لا تموت بقتل واغتيال قادتها بل تستلهم من تضحياتهم بطولات كفام مستمرة لتحقيق الانتصار, فعام 2005م كان خروج المحتل من قطاع غزة (ماهر الشريف, إعادة استيطان قطاع غزة وترحيل سكانه مشروع قابل لتحقيق, فبراير 2024م).
مخططات قديمة
يشير بعض الباحثين إلى أن هناك مخططات قديمة ترعاها المؤسسات العميقة في دولة الاحتلال, منها ما تضمن فكرة الاستيلاء على المنطقة الممتدة من وادي غزة حتى شمال القطاع في إطار أي حرب قادمة شاملة تُشن ضد قطاع غزة بغية إخضاعها للسيادة الصهيونية وإقامة المستوطنات هناك، ففي كل عدوان وحرب ظالمة يشنها الاحتلال الصهيوني النازي على قطاع غزة خلال الأعوام الماضية- وقبل معركة الطوفان- كان يبرز الحديث من قبل المسؤولين الصهاينة عن طرد سكان غزة وإقامة المستوطنات, بالإضافة إلى ذلك فإن الخطاب الرسمي الصهيوني ما زال يتعامل مع قطاع غزة بنفس المصطلحات التي كانت تُستخدم قبل الانسحاب منه عام 2005م, ومثال ذلك تكرار مصطلحي (حيفل عزة) و(الإدارة المدنية) في العدوان الحالي على مدينة غزة: (رامي سمارة, الاستيطان في غزة.. إحياء على حساب الأحياء).
مؤامرة تهجير
تأتي المخططات الاستيطانية على خلفية العمليات العسكرية الصهيونية التي غذت تلك النزعة الاستيطانية, بعدما دمرت مظاهر الحياة وشل الاقتصاد والمصالح والخدمات العامة في غزة, وإذا كان الهدف المعلن لهذه العمليات العسكرية من قبل العدو الصهيوني هو القضاء على حماس فإن الواقع يشهد أن هذه العمليات تستهدف بشكل مباشر المدنيين العزل بقصد الإبادة والتهجير, فقد ظهرت منذ الشهور الأولى للعدوان على غزة مخططات صهيونية لتهجير الفلسطينيين من غزة إلى دول أخرى, وهو ما جاء على لسان بعض القيادات الصهيونية مثل وزير التراث الصهيوني (عميهاي إلياهو) والذي قال: (إنه يجب تشجيع سكان غزة على الهجرة لبلدان أخرى ضمن إجراءات الانتقام منهم بعد أحداث 7 من أكتوبر) وقد ادعى وزير الأمن القومي في حكومة الاحتلال المتطرف (إيتمار بن غفير) أن الترويج لـ(حل يشجع على هجرة الفلسطينيين في غزة هو أمر عادل وأخلاقي وإنساني, عدا عن كونه حاجة مُلحة لتمهيد الطريق أمام إعادة إقامة مستوطنات على حساب الأراضي الفلسطينية), كما طالب وزير المالية (سموتريتش) هو الآخر: (بعودة المستوطنين إلى قطاع غزة بعد انتهاء العدوان, ودعا إلى تشجيع فلسطينيي القطاع على الهجرة إلى دول أخرى ليعيشوا حياة طبيعية بطريقة مناسبة وإنسانية بالتعاون مع المجتمع الدولي ودول مجاورة) (محمد الأمين, تهجير الفلسطينيين.. حلم إسرائيلي لا ينام , 7 ديسمبر 2023م).
تهجير قسري
من الدول التي يكثر الحديث عن تهجير أهل غزة إليها هي مصر وتحديدا سيناء, حيث يرى الكيان الصهيوني أن تهجير الفلسطينيين نحو سيناء هو الخيار الأكثر مثالية, وهو ما أشارت إليه ورقة سياسات صادرة عن وزارة الاستخبارات الصهيونية حيث تؤكد الورقة الصهيونية أنه رغم مواجهة عملية التهجير مجموعة من التحديات على الأصعدة السياسية والعسكرية والاجتماعية, إلا إنها تظل الخيار الأفضل للكيان الصهيوني على المدي الطويل, حيث يرى الاحتلال أن نموذج السلطة الفلسطينية لم ينجح تماما كما توضح تجربة (حفظ الأمن) في الضفة، كما أن مغادرة السلطات الصهيونية للأراضي كما حدث في غزة عام 2005م, لم ينجح أيضا, ما يُبقي خيار التهجير خيارا أخيرا ومفضلا للجانب الصهيوني رغم العوالق المختلفة (تقي محمد يوسف, مستقبل الاستيطان الاسرائيلي في الأراضي الفلسطينية ما بعد طوفان الأقصى، (مجلة قضايا ونظرات, مركز الحضارة للدراسات والبحوث, العدد 33, أبريل 2024م)، فمن خلال منع مقومات الحياة عن السكان وفرض الحصار عليهم بهدف وضعهم أمام حل وحيد هو الهجرة ويُعد من التهجير القسري، وقد جاء في بيان لوزارة الخارجية الفلسطينية: (نحذر من محاولات الحكومة الإسرائيلية ورئيس وزرائها بنيامين نتنياهو ترويج مفهوم الهجرة الطوعية لشعبنا في قطاع غزة وتسويقه, لإخفاء جريمة التهجير القسري الذي تفرضه قوات الاحتلال بشكل مباشر أو غير مباشر على قطاع غزة، من خلال خلق مناخات وبيئة طاردة للغزاويين).