
من يعيد رسم خريطة النفوذ في الوطن العربي؟
لطالما كانت المنطقة العربية مسرحًا لصراع النفوذ بين القوى الكبرى، منذ خمسينيات القرن العشرين، حين بدأت الولايات المتحدة الأمريكية تتبوأ مكانة البديل الطبيعي للاستعمار الأوروبي في المنطقة.
واليوم، مع صعود محور الجهاد والمقاومة وتنامي دور القوى الأوروبية في الأزمة الفلسطينية، يتجدد السؤال: من يمتلك القدرة على إعادة رسم خريطة النفوذ العربي؟ هذا المقال يحلل بعمق التفاعلات التاريخية والمعاصرة، ويستشرف السيناريوهات المستقبلية للقوى الكبرى والإقليمية، موضحًا كيف تتشابك المصالح الاقتصادية والسياسية والأمنية في تشكيل التوازنات الجديدة على أرض الواقع.
في خمسينيات القرن العشرين، ومع تصاعد موجة الثورات التحررية ضد الاستعمار الأوروبي، كانت الولايات المتحدة الأمريكية تستعد لتكون البديل الطبيعي لبريطانيا وفرنسا في المنطقة العربية. كانت واشنطن تدرك أن التواجد الأوروبي القديم، رغم أنه في طريقه إلى الانحدار، لا يزال يحتفظ ببعض النفوذ، وأن الفراغ الذي ستتركه القوى الاستعمارية يحتاج إلى قوة جديدة لتملأه، قوة تتحكم في مسارات النفط والغاز، وتضمن مصالحها الاستراتيجية في ممرات التجارة العالمية. وفي هذا السياق، شجعت الولايات المتحدة الدول الأوروبية على المضي في العدوان الثلاثي على مصر عام 1956، لكنها سرعان ما اتخذت موقفاً معارضاً للعدوان، لتظهر نفسها كلاعب رئيسي في المنطقة، وتضع حجر الأساس لما أصبح لاحقاً الهيمنة الأمريكية على الشرق الأوسط، وبدء مرحلة جديدة من إعادة تشكيل التوازنات الدولية، حيث أصبح النفط والموارد الاستراتيجية والممرات البحرية عناصر حاسمة في السياسة العالمية.
اليوم، ومع تصاعد حالة السخط السياسي والشعبي تجاه السياسة الأمريكية في المنطقة العربية، وتنامي دور محور الجهاد والمقاومة كفاعل مؤثر على الأرض وفاعلية في الصراعات الإقليمية، بدأت القوى الأوروبية، مجدداً، بإعادة ترتيب أوراقها، محاولةً العودة إلى المنطقة عبر بوابة القضية الفلسطينية، التي هي في الأصل نتاج مباشر لتدخلاتها الاستعمارية السابقة. إعادة طرح مشروع حل الدولتين، تحت عناوين دبلوماسية، ليست مجرد خطوة شكلية، بل هي محاولة استراتيجية لاستعادة النفوذ الأوروبي المباشر، واستثمار الأزمة الفلسطينية كوسيلة للتواجد في الساحة العربية، والتحكم في مسار أي اتفاقيات سياسية أو اقتصادية مستقبلية، بما يعيد لها موقعها التقليدي كقوة قادرة على التأثير في موازين القوى الإقليمية والدولية.
لكن، كما هو الحال في كل التفاعلات الدولية في المنطقة، تبقى أهداف أي طرف، سواء كان شرقياً أو غربياً، محصورة في السيطرة على موارد الطاقة الحيوية، النفط والغاز العربي، والسيطرة على خطوط نقل هذه الموارد، وأهمها المضايق البحرية الاستراتيجية التي تربط بين الأسواق العالمية ومصادر الطاقة. فالتحكم في أكبر احتياطي نفطي وغازي في العالم يمنح القوة المسيطرة قدرة غير مسبوقة على التأثير في الاقتصاد العالمي، وفرض شروطها على الدول الكبرى، بينما السيطرة على الممرات البحرية الحيوية تتيح للفريق المسيطر القدرة على التحكم في حركة التجارة العالمية، ونقل الطاقة، ما يجعل أي طرف يملك النفوذ هناك قادراً على فرض إرادته على اللاعبين الدوليين الآخرين.
أما بخصوص الكيان الإسرائيلي، فإن وجوده ليس مجرد مسألة أمنية أو سياسية مؤقتة، بل هو أداة استعمارية استراتيجية تم زرعها في جسد الأمة العربية بهدف خلق بؤرة صراع دائمة، تسمح للقوى الكبرى، سواء الأوروبية أو الأمريكية، بالاحتفاظ بمبررات للتدخل المستمر في الشؤون العربية. هذا الكيان، الذي نبت من إرادة استعمارية بحتة، يعمل كحاجز أمام الوحدة العربية، وكمبرر لاستمرار الهيمنة الأجنبية، ويعتبر ركيزة أساسية في أي معادلة استراتيجية تتعلق بالوجود الدولي في المنطقة.
من هذا المنطلق، لا يمكن فهم التحركات الأمريكية أو الأوروبية في المنطقة بمعزل عن تاريخ الصراع على النفوذ العربي، ولا يمكن قراءة أي خطوة سياسية بمعزل عن مصالح الطاقة والسيطرة على الممرات البحرية وأمن الكيان الإسرائيلي. فالمنطقة العربية اليوم تشهد صراع نفوذ متعدد المستويات، حيث تتقاطع المصالح الاقتصادية مع الجيوسياسية، وتتصاعد التحديات أمام القوى الأجنبية كلما برزت قوة محلية أو إقليمية تسعى للاستقلالية والتحرر من النفوذ الأجنبي. محور الجهاد والمقاومة، بصعوده وتأثيره، أصبح جزءاً لا يمكن تجاوزه في معادلة التوازن الإقليمي، حيث يفرض نفسه كلاعب أساسي، يعيد ترتيب أوراق القوى الكبرى، ويجبرها على إعادة النظر في استراتيجياتها التقليدية التي كانت تعتمد على هيمنة شبه مطلقة للولايات المتحدة في المنطقة.
إن ما نشهده اليوم ليس سوى امتداد طبيعي لصراع النفوذ التاريخي، ولكنه يختلف من حيث الوسائل والأدوات. ففي حين كانت السيطرة في الماضي تقتصر على التدخل العسكري المباشر والاتفاقيات الاستعمارية، أصبح اليوم النفوذ الأوروبي والأمريكي يعتمد على أدوات دبلوماسية، سياسية واقتصادية، ومحاولات إعادة إنتاج معادلات الحلول السياسية القديمة، مثل حل الدولتين، لضمان السيطرة على الموارد الحيوية، وحماية مصالح حليفة استراتيجية كالكيان الإسرائيلي، والحفاظ على خطوط النقل والطاقة المفتوحة وفق مصالحهم. هذه المعادلة توضح أن أي تراجع للقوة الأمريكية في المنطقة لن يؤدي إلى فراغ حقيقي، بل سيكون محفزاً لتدخل القوى الأوروبية وغيرها، وكلها تتنافس على الاستفادة من الهيمنة على ما تبقى من الموارد الاستراتيجية، وتوظيف الأزمات القائمة لصالح نفوذها المستقبلي.
وبناءً على التحليل الاستراتيجي الحالي، يمكن رسم عدة سيناريوهات مستقبلية دقيقة للفترة القادمة:
السيناريو الأول يتعلق بالولايات المتحدة، والتي من المرجح أن تسعى لتعزيز تحالفاتها مع دول الخليج عبر حزم سياسية وعسكرية واقتصادية، لتثبيت خطوط إمداد الطاقة والممرات البحرية الحيوية، مع تكثيف الدعم العسكري والاستخباراتي للكيان الإسرائيلي لضمان السيطرة على أي تطورات أمنية مفاجئة. في هذا السيناريو، ستبقى واشنطن القوة العسكرية المهيمنة، لكنها ستواجه تحديات تتعلق بزيادة نفوذ محور المقاومة وتقوية القوى المحلية المستقلة عن سيطرتها.
أما السيناريو الثاني، فيتعلق بالقوى الأوروبية، التي ستستثمر الأزمة الفلسطينية كمنصة لإعادة النفوذ السياسي، عبر سياسة «العودة الدبلوماسية الذكية» التي تجمع بين الوساطة الدولية والاستثمار الاقتصادي، ومحاولة تقديم نفسها كطرف قادر على التأثير في مسار التسوية، وربط نفسها بالمبادرات العربية لإدارة الأزمات. هذا التحرك سيمنح أوروبا فرصة للتموضع الاستراتيجي، لكنه سيظل محدوداً أمام النفوذ العسكري الأمريكي المباشر، ما يجعل أوروبا لاعباً تكميلياً لكنه محوري في إعادة تشكيل التوازنات الدبلوماسية.
أما السيناريو الثالث، فهو متعلق بمحور الجهاد والمقاومة، الذي سيستمر في تعزيز تأثيره على الأرض، وإجبار القوى الكبرى على التكيف مع واقع جديد لا يمكن تجاوزه. في هذا السيناريو، يتمثل التحدي الرئيس لمحور المقاومة في مواجهة الضغوط الاقتصادية والدبلوماسية، لكن نجاحه في تحصين نفوذه على الأرض وفرض توازن جديد في معادلة القوة، سيمنحه القدرة على تقليص مساحة النفوذ الأمريكي والأوروبي، وإعادة تعريف سياسات الطاقة والأمن في المنطقة.
السيناريو الرابع، الذي يمكن اعتباره متداخل النتائج، يركز على الصراعات المتقاطعة بين القوى الكبرى، حيث يؤدي الصراع الأمريكي الأوروبي على النفوذ العربي إلى منافسة محتدمة على العقود النفطية والاستثمارات الاستراتيجية، ما قد يولد تحالفات مؤقتة مع فواعل إقليمية مختلفة، لتأمين مصالح كل طرف، ويزيد من تعقيد المشهد السياسي في الشرق الأوسط، ويضع المنطقة أمام تحديات مستمرة للحفاظ على الاستقرار الداخلي والإقليمي.
كل سيناريو يحمل فرصاً وتهديدات واضحة: القوة الأمريكية تواجه خطر تراجع هيمنتها التقليدية، أوروبا لديها فرصة لإعادة التموضع، ومحور المقاومة يمتلك قدرة على تعزيز نفوذه، لكنه معرض لمحاولات احتواء دولية واستنزاف طويل الأمد. هذه الدينامية المعقدة تجعل المنطقة العربية مركزاً لا يمكن تجاوزه في المنافسة الاستراتيجية الدولية، حيث تتقاطع المصالح الاقتصادية والسياسية والأمنية، ويصبح الشعب العربي لاعباً حقيقياً في تحديد ميزان القوى على الأرض.
وبذلك، تصبح المنطقة العربية، خلال السنوات الخمس المقبلة، ساحة مفتوحة للتنافس الاستراتيجي بين قوى عالمية وإقليمية، ويظل النفط والغاز والممرات البحرية وأمن الكيان الإسرائيلي هي المحددات الجوهرية لأي استراتيجية مستقبلية، ما يجعل فهم هذه التفاعلات واستشراف السيناريوهات القادمة ضرورة حقيقية لتحديد مصير المنطقة ومكانة القوى الدولية فيها، وفي قلب هذا الصراع، يبقى محور الجهاد والمقاومة كعامل مستقل قادر على إعادة رسم خريطة النفوذ العربي والإقليمي.