وثائق عرفية وقبلية من برط اليمن "19"
ليس من السهل تتبّع التاريخ الدقيق لقبائل برط، شأنها شأن كثير من قبائل شبه الجزيرة العربية التي تفتقر إلى الوثائق المركزية أو السجلات الرسمية، فالمصادر المتاحة غالبًا ما تكون في حوزة العائلات نفسها إن وُجدت أصلًا، مما يجعل إعادة بناء التحركات القبلية وتطورها أمرًا معقدًا.
ومع ذلك، يمكن القول إن قبائل برط كانت جزءًا من المشهد السياسي لليمن، لعبت فيه أدوارًا متناقضة؛ فهي كانت في أحيانٍ قوة مساندة للدولة، بينما ظهرت في أحيان أخرى بوصفها مناوئة لها أو ملاذًا للمعارضين.
في العصور الإسلامية الأولى، وتحديدًا منذ القرن العاشر الميلادي، ورد ذكر برط في روايات أول إمام زيدي في اليمن الذي توفي عام 911م، لكنها كانت خارج نطاق السيطرة الفعلية للأئمة. وفي الفترة الممتدة بين 1177 و1275هـ (1763–1859م)، التي تؤرخ لها النصوص المتاحة، لم يتغير هذا الوضع كثيرًا؛ إذ بقيت برط في هامش الدولة لكنها حاضرة في أحداثها الكبرى.
عندما ثار الإمام القاسم بن محمد (توفي 1619م) ضد العثمانيين أواخر القرن السادس عشر، لجأ إلى برط عقب إخراجه من الأهنوم عامي 1604–1605م، قبل أن يتجه غربًا حيث وجد دعمه الأساسي. وعندما نجح أبناؤه في طرد العثمانيين (1620–1636م) وتأسيس الدولة القاسمية، انتقل مركز الحكم إلى صنعاء وما جاورها جنوبًا، وظلت برط بعيدة نسبيًا عن السلطة المركزية.
ومع منتصف القرن السابع عشر، برزت برط مجددًا كمأوى للمتمردين والمنافسين على الإمامة. ففي عام 1651م لجأ إليها محمد الحيداني المعروف بـ"الفوتي"، مدّعيًا المهدوية، وبعده بأعوام، وتحديدًا في 1665م، ذهب إليها السيد محمد علي الغرباني من صنعاء وندّد بالإمام القاسمي القائم آنذاك قبل أن يعلن نفسه إمامًا، مما شكّل تحديًا حقيقيًا للدولة. واستمر هذا النمط خلال القرنين السابع عشر والثامن عشر، إذ لجأ إليها عدد من الطامحين إلى الحكم مثل علي صلاح الدين الكوكباني عام 1750م، وأحمد محمد إسحاق عام 1755م الذي انتقل لاحقًا إلى وصاب وادّعى الإمامة فترة وجيزة. وحتى في أواخر القرن التاسع عشر أعلن المهدي محمد الحوثي نفسه إمامًا في برط عام 1882م، مؤكدًا استمرار دور المنطقة كمركز معارضة أو انطلاق لحركات مناوئة للأئمة.
كما شهدت برط إقامة شخصيات أقل شهرة لكنها ذات أثر في تاريخ اليمن الزيدي مثل السيد القاسم بن أحمد من بيت المؤيد الذي أقام فيها اثني عشر عامًا أواخر القرن السابع عشر، بينما كان الأئمة يتناوبون السلطة في مناطق أخرى من اليمن حتى قيام دولة الناصر المهدي.
أما مفهوم الدولة في السياق الزيدي آنذاك فكان يعني بالأساس مركز الحكم المتمثل في صنعاء، حيث كانت تُدار شؤون البلاد من "المحكمة" الرسمية أو مجلس الإمام. ومع أن الأئمة رفعوا شعار العدالة الإسلامية ووحدة السلطة في اليمن، إلا أن الواقع كان أكثر تعقيدًا، فقد قام الإمام المتوكل إسماعيل (1644–1676م) بتعيين أبنائه حكامًا على مناطق مختلفة، وعقب وفاة المهدي أحمد (1676–1681م) أعلن عدد من أقاربه أنفسهم أئمة، فيما توزعت ولاءات القبائل والمناطق بين هذه الادعاءات المتنافسة. وهكذا ظل النفوذ القاسمي يتأرجح بين المركز والأطراف، بينما بقيت مناطق مثل برط وسفيان وصعدة فضاءات لتجدد المطالبات السياسية والدينية.
ويلاحظ أن عائلة المؤيد محمد تكررت أدوارها في أحداث شهارة، فيما ظل أحفاد المهدي أحمد حاضرين في صعدة. كما ارتبطت قبيلة ذو محمد بعلاقات متشابكة مع قبائل سفيان وآل عمار جيرانهم شمالًا، حيث تداخلت المصالح بين هذه المناطق في صعدة والجوف، وبرزت أيضًا بيت العنسي كعائلة مثقفة لعبت دور الوسيط بين الأعيان في سفيان وبرط، مما جعل الأخيرة حلقة وصل بين القبائل الشمالية والمركز الزيدي في المرتفعات.
أما ذو حسين، الجيران المباشرون لذو محمد في جبل برط، فكانوا أكثر ارتباطًا بمنطقة الجوف، وعندما جنّد الإمام المتوكل إسماعيل عام 1660م قبيلة دهم لشن حملة على البدو شرق وجنوب جبل برط، يُرجَّح أن ذو حسين كانوا القوة الرئيسة المشاركة إلى جانب قبائل أخرى مثل آل سليمان وبني نوف وآل سالم والعمالسة.
من خلال هذا العرض، يتضح أن برط لم تكن مجرد منطقة جغرافية على هامش السلطة، بل فضاءً سياسيًا واجتماعيًا لعب دورًا محوريًا في تاريخ اليمن الزيدي، فقد كانت ملاذًا للمعارضين ومركزًا للثورات الدينية والسياسية، وجسرًا بين القبائل الشمالية والدولة القاسمية. ومع أن الأئمة سعوا إلى فرض سلطتهم من صنعاء، إلا أن الواقع القبلي ظل أقوى من مركزية الدولة، لتبقى برط شاهدًا على تعقيد العلاقة بين القبيلة والإمامة في تاريخ اليمن.





