كتابات | آراء

فلسطين ومكر المسلمين

فلسطين ومكر المسلمين

لا زلتُ أتابع باهتمام الموقف المتخاذل للأنظمة العربية إزاء ما جرى ويجري من جرائم الإبادة الجماعية في فلسطين منذ أكثر من عامين، رغم اتفاق وقف إطلاق النار واغتيال قادة عظام من حزب الله في لبنان، وحركة حماس، وقادة في اليمن على أيدي بني صهيون.

لا سيما موقف الإخوان المسلمين والجماعات التكفيرية الذين طالما تغنّوا بالقضية الفلسطينية وزايدوا بها، وأثروا على حسابها. وعندما حصحص الحق، تواروا عن الأنظار، وكأن الأرض انشقت وابتلعتهم، وتخلّوا عنها تمامًا، بل وتحولوا إلى أعداء لمحور المقاومة بسبب موقفه ونصرته للحق الفلسطيني. وهو ما يؤكد أن هذه الجماعات، بمختلف فكرها واتجاهاتها، التي تدّعي انتماءها للإسلام زورًا وبهتانًا وتتاجر به، بالإضافة إلى الحكام العرب المتخاذلين، لا يهمهم سوى الوصول إلى السلطة والاستحواذ عليها وتسخيرها لخدمة مصالحهم الذاتية على حساب مصالح شعوبهم.
وبما أن الإخوان المسلمين، الذين تأسست جماعتهم في مصر عام 1928م بدعم بريطاني، شكّلوا منذ ذلك التاريخ مرجعية لكل الجماعات المتطرفة التي وُلدت من رحمها، بما في ذلك التطرف الوهابي كما أكد لي مسؤولون سعوديون كبار، فإن تبنّي السعودية للإخوان المسلمين بعد اختلافهم مع الرئيس جمال عبد الناصر في منتصف الخمسينيات من القرن الماضي، وتوزيعهم على المدارس والمعاهد والجامعات للتدريس فيها، كان سببًا في نشوء الفكر المتطرف الذي ارتبط بالوهابية وتحوله إلى فكر تكفيري.
وعليه، سنركز هنا بشكل أساسي على جماعة الإخوان المسلمين، كونها –كما أشرنا آنفًا– تشكل المرجع لكل التطرف الديني الذي تحمله جماعات إسلامية مختلفة تدّعي أنها تمثل الفكر السني ومعاداته لكل من يختلف معه فكرًا ومذهبًا. وإن كنا لا نلوم الإخوان المسلمين الطامحين للسلطة أكثر من غيرهم على إخفاق تجربتهم في الحكم، لأنهم جزء من تركيبة معقدة في العالم العربي، لا يزال الوعي السياسي فيه والقبول بالآخر متأخرَين وقاصرَين، فتحققت حرفيًا مقولة الرئيس الراحل محمد أنور السادات التي قالها في أحد خطاباته: "إن الإخوان المسلمين يجب أن يُحاكموا بسبب غبائهم السياسي".
لم نكن نتصور أن طرفًا سياسيًا يصل إلى الحكم بإرادة شعبية، وبعد تجارب فاشلة لحكم العسكر والقوميين والاشتراكيين، وكان الاعتقاد أنه سيُحدث ثورة تغيير كبرى، ويثبت للشعوب –كطرف مدني تسلّم السلطة عبر الانتخابات، وليس عبر انقلاب عسكري– أن العرب بخير، وأنهم قادرون على مجاراة الدول المتقدمة وإشاعة الحرية والديمقراطية. لكن مع الأسف الشديد، فإن الطبع الذي تطبع به العرب قد سيطر على فكرهم الأحادي، وما يُقال عبر الشعارات المرفوعة من كلام معسول يتم من خلاله دغدغة عواطف الجماهير لكسب ودّها وثقتها، ليس إلا ذرًا للرماد في العيون، بينما الأفعال من قبل حكامها وأنظمتها تخالف الأقوال.
لقد كانت المراهنة آنذاك كبيرة على جماعات الإخوان المسلمين في مصر وليبيا واليمن لإحداث نقلة نوعية في الحكم، خاصة في مصر التي ظلّت هذه الجماعة فيها ملاحقة، ومعرّض قادتها للاعتقال والسجن لعقود طويلة بعد قيام ثورة 23 يوليو عام 1952م. وعندما قامت ما عُرف بانتفاضة الشباب يوم 25 يناير عام 2011م في مصر، وجدها الإخوان فرصة لا تُعوَّض، فشاركوا فيها بقوة، ووضعوا كل ثقلهم خلف هذه الانتفاضة التي أعادت لهم الاعتبار. ولأول مرة شكّلوا حزبًا سياسيًا في تاريخهم. وبحكم أنهم أكبر قوة سياسية مؤثرة حينها، اكتسبوا تعاطف الجماهير، فبرزوا أثناء الانتخابات مدغدغين عواطف الناس بشعاراتهم الرنانة، مطلقين الوعود لإحداث التغيير وإشاعة الحرية والديمقراطية، مستندين إلى ما لاقوه من تعاطف نظرًا لما تعرّضوا له خلال عدة عقود من ملاحقات واعتقالات لقادتهم.
فصوّت معظم أبناء الشعب المصري لمرشحهم في الانتخابات الرئاسية، الدكتور محمد مرسي، الذي كان منافسه آنذاك أحمد شفيق، آخر رئيس وزراء في عهد الرئيس المخلوع محمد حسني مبارك. وخشية من أن يفوز أحمد شفيق فيُعاد إنتاج نظام مبارك من جديد، فقد وضعت المعارضة المصرية بكل اتجاهاتها السياسية والفكرية ثقلها خلف الدكتور محمد مرسي لضمان فوزه بالرئاسة وقطع الطريق على منافسه، وهذا ما حدث. وكان الشعب المصري يعلّق أملًا كبيرًا على وصول الإخوان المسلمين إلى الحكم، باعتبار أنهم لم يُجربوا بعد كغيرهم من القوى السياسية الأخرى، وأن معارضتهم الطويلة للأنظمة السابقة قد أكسبتهم تجربة سياسية عميقة وخبرة إدارية جيدة، إضافة إلى أن خطابهم السياسي والإعلامي وحتى الديني كان يصب في هذا الاتجاه، وهو ما زاد الشعب المصري ثقة بهم.
لكن، كما هو حال من سبقوهم في الحكم من العسكر والقوميين والاشتراكيين، لم يكادوا يستقرون فيه حتى اختصروا كل شيء في أنفسهم، فتعاملوا مع الشعب المصري وكأنه جناح تابع للإخوان المسلمين، مطلوب منه السمع والطاعة، ولم يتعاملوا معه كشعب عريق تمتد حضارته إلى سبعة آلاف سنة، وتتعايش فيه الديانات والمذاهب والاتجاهات السياسية والفكرية المختلفة. ولم يعمل مرسي على إرساء قاعدة التعايش السلمي والقبول بالآخر، وإنما تعامل –كما تقتضي سياسة الإخوان– على أساس أنه رئيس للإخوان، وليس للشعب المصري بكل فئاته المختلفة. فضلًا عن أنه كان يعلم جيدًا أن نسبة 48٪ من أصوات الناخبين قالت له: "لا". وهذه النسبة الكبيرة تُشكّل له ولحكمه معارضة قوية كان عليه أن يتعامل معها بحكمة، بدلًا من أن يستفزّها بإصدار قرارات تُخرجها تمامًا من المعادلة السياسية، وتشعرها بأنها أصبحت رقمًا مفقودًا، فكانت النتيجة كارثية بالنسبة لحكم الإخوان المسلمين.
ومن المفارقات أنهم تخلّوا عن القضية الفلسطينية التي زايدوا بها وأثروا على حسابها، وبقية القصة معروفة. فاضطر الجيش إلى أن يُسلم السلطة للمحكمة الدستورية، التي اختير رئيسها عدلي محمود منصور رئيسًا مؤقتًا لمصر خلال الفترة الانتقالية. وكانت ردّة فعل الإخوان عنيفة، إذ لم يسلموا بالأمر الواقع، وإنما لجؤوا إلى الاعتصامات وتعطيل الحياة، حتى انتهت الأوضاع بهم إلى ما لا يُحمد عقباه، وعادوا إلى السجون من جديد، فدفع الشعب المصري الثمن غاليًا.
وها هي مصر اليوم تئنّ تحت حكم العسكر من جديد، وأصبحت محتلة سياسيًا واقتصاديًا من قبل الغرب والأعراب الأثرياء، وتابعة –مع الأسف– بعد أن كانت متبوعة. بل وتخلت عن القضية الفلسطينية، بعد أن كان جيشها المصري يشكل رأس الحربة للدفاع عنها، وفي سبيلها خسرت مصر الكثير والكثير. ومع كل هذه التضحيات التي قدمتها، كانت النتيجة خروج مصر وجيشها من معادلة الصراع العربي–الإسرائيلي، تاركة المجال لجيش بني صهيون ليعربد في المنطقة العربية كيفما يشاء، وهو ما شكّل صدمة كبيرة للشعوب العربية التي كانت تراهن على دور مصر الريادي الذي عُرفت به في العقود الماضية.

أخبار الجبهات

وسيبقى نبض قلبي يمنيا
لن ترى الدنيا على أرضي وصيا