
قمة شنغهاي .. الدلالات والأبعاد والنتائج المحتملة
جاء انعقاد قمة شنغهاي في سياق دولي بالغ التعقيد، تتشابك فيه أزمات جيوسياسية واقتصادية وأمنية تؤثر بصورة مباشرة على الدول الأعضاء وفي ظل احتدام المواجهة التجارية بين الولايات المتحدة وكل من الصين والهند، واستمرار الحرب الروسية في أوكرانيا وما تفرضه من انعكاسات أمنية واقتصادية على الفضاء الأوراسي،
إلى جانب تعقّد الملف النووي الإيراني وتصاعد التوتر إثر حرب الـ12 يوماً الإسرائيلية على إيران التي تخللتها ضربات أمريكية لمنشآت نووية إيرانية كما تزامن انعقاد القمة مع استمرار الحرب العدوانية الإسرائيلية على غزة وتداعياتها الإقليمية والدولية، ومع تصاعد التوتر بشأن قضية تايوان، فضلاً عن قضايا عالمية أخرى مثل أمن الطاقة، والتحولات في النظام المالي الدولي، وتغيّر المناخ .. المزيد من التفاصيل حول مجريات وأحداث القمة ودلالاتها وأبعادها ونتائجها المحتملة في السياق التالي :
طلال الشرعبي
حملت القمة إشارات ودلالات واضحة على عزم وتوافق استراتيجي بين قادة الصين وروسيا والهند، حيث بدا زعماء: الصين شي جينبيغ، وبوتين، ومودي، موحّدين بصورة رمزية أمام العالم، متحدّين سياسة "الهيمنة الغربية".
وعكست تصرفاتهم دلالات جيوسياسية بقيام بعض المراقبين بوصفهم «محور الزعزعة». وتذهب القراءات إلى أن مودي استثمر المنصة لإرسال رسائل دبلوماسية متعددة: إلى واشنطن، وإلى باكستان، وإلى بكين، مؤكّدًا استقلالية الهند وحماية مصالحها الاستراتيجية.
عرض عسكري ورسائل متعددة
لم تقتصر القمة على مناقشة الجوانب الاقتصادية والسياسية، بل رافقها عرض عسكري صيني واسع في تيانجين، شاركت فيه قوات برية وصاروخية وجوية.
الاستعراض العسكري الضخم الذي أقامته الصين بمناسبة الذكرى الثمانين لانتهاء الحرب العالمية الثانية لم يكن مجرد احتفال تاريخي بل كان رسالة استراتيجية واضحة للغرب والعالم. من خلال عرض القوات والمعدات العسكرية الحديثة بما في ذلك الصواريخ الفرط صوتية والأنظمة النووية والطائرات الشبحية وأنظمة الدفاع الفضائي أرادت الصين أن توصل رسالة بأن قدراتها العسكرية أصبحت متقدمة بما يكفي للردع الفعّال ضد أي تهديد محتمل برسالة واضحة عن تغير ميزان القوى العالمي والإعلان عن ولادة محور جديد بالتركيبة العالمية وتقول انتهى زمن التفرد بالعالم وكان خطاب الرئيس شي جين بينغ الذي شدد فيه على أن البشرية أمام خيارين السلام أو الحرب وضرورة تفضيل الحوار على المواجهة مقابل الهيمنة الغربية يعكس النهج الاستراتيجي للصين الذي يجمع بين القدرة على الردع والاستعداد للحوار والدبلوماسية ويضع الغرب أمام معادلة واضحة احترام مصالح الصين أو مواجهة قدرة ردع متنامية.
وبحسب متابعين فإن العرض حمل رسائل متعددة: أولها إلى الولايات المتحدة بأن سياسة الاحتواء لن تمنع الصين من تعزيز تحالفاتها وتوسيع نفوذها. وثانيها إلى حلف الناتو بأن بكين وموسكو تمتلكان قدرات ردع عسكرية وسياسية متزايدة.. أما ثالث الرسائل، فإلى شركاء المنظمة، ومفادها أن التعاون الاقتصادي في إطار شنغهاي يستند إلى مظلة قوة صلبة تحمي مصالح الأعضاء.
نظام عالمي جديد
حضور قادة مثل بوتين وكيم جونغ أون بالإضافة إلى ممثلين من عدة دول آسيوية وأخرى من الجنوب العالمي في القمة عكس رغبة الصين في بناء نظام عالمي جديد ومحاور استراتيجية موازية للغرب وأشار إلى أن الرسالة لم تكن موجهة إلى الداخل فقط بل إلى النظام الدولي ككل.
وفي هذا السياق جاء الاستعراض العسكري الذي حمل إشارات صينية ضمنية حول إعادة صياغة الرواية التاريخية حيث تبرز الصين دورها الحاسم في الانتصار العالمي وتقدم نفسها اليوم كقوة مركزية في تحقيق الاستقرار وصناعة السلام بينما تعكس معداتها الحديثة جاهزيتها لمواجهة أي محاولة لاحتوائها أو تحدي نفوذها.
خيبة أمل ومرارة أمريكية
الرئيس الأمريكي دونالد ترامب الذي ينشغل هذه الأيام بأحواله الصحية، وفضائحه في جزيرة عميل الموساد الإسرائيلي جيفري إبستين ، وخوض حرب تجارية ضرائبية مع معظم دول العالم، كان تعليقه على القمة لافتاً ومجسدا لحقيقة المرارة الأمريكية وتجلى ذلك بوضوح من خلال تعليقه على صورة الثلاثي (شي، وبوتين، ومودي)، عبر منشور على منصة «تروث سوشال» بالقول: «يبدو أننا خسرنا الهند وروسيا لصالح الصين الأشد عمقًا وظلامًا. نتمنى لهم معًا مستقبلًا طويلًا ومزدهرًا!» وفي تعليق آخر على الصورة، قال: "عرض لطموح جماعي. يتمنون أن أكون أشاهدهم… وقد كنت".
وفيما رأى متابعون أن تعليقات ترامب الساخرة حالات تعبيرا عن غضبه من ميل الهند نحو الصين في ظل توترات العلاقات التجارية مع واشنطن بعد فرضه رسوماً جمركية تصل إلى 50% على واردات الهند من البضائع، وغضبه أيضا من ميل روسيا نحو «التنين الأصفر»، وهو الذي ظل يغازل بوتين واستقبله استقبال «الفاتح» كاسراً الحصار الغربي عليه
بالمقابل رأى مراقبون آخرون أن تعليق ترامب يسلّط الضوء على تقلّص النفوذ الأمريكي في آسيا، ويعكس قلقه من فكرة «التحالف المُضاد» الذي بدأت تشكّله الصين، وروسيا، والهند!
إلى ذلك جاء حديث وزير الخزانة الأمريكي، سكوت بيسنت، عن القمة أكثر وضوحا ومباشرة ، بوصفه قادة الهند والصين وروسيا بأنهم «جهات فاعلة سيئة»، معتبراً أن قمة منظمة شنغهاي كانت شكلاً استعراضياً كبيراً، وأن التكتل يبدو رمزيًا دون تحقيق نتائج ملموسة. ولكن رغم النقد، عبّر بيسنت أيضًا عن تفاؤله بشأن إمكانية إيجاد حل للتوترات التجارية بين واشنطن ونيودلهي، ملمّحًا إلى أن العلاقة مع الهند لا تزال «قوية» رغم التباعد الحالي.
في السياق اعتبرت أوساط أمريكية أن القمة تُظهر ميل القادة الآسيويين نحو تشكيل توازن جيوسياسي بعيدًا عن التأطير الأمريكي. وقالت «الواشنطن بوست»: إن السياقات البارزة أكدت أن الهند، على وجه الخصوص، تسعى لـ«تحقيق استقلال استراتيجي»، في ظل توترات مع أمريكا بسبب فرض رسوم 50% على وارداتها. أما «الغارديان» البريطانية، فرأت أن السياسيين في واشنطن قد يشجعون سياسات تجعل الهند أقل اعتمادًا، وهو ما قد يُضعف أطر التعاون مثل «الحوار الأمني الرباعي»، وهو الإطار الاستراتيجي غير الرسمي الذي يضم الولايات المتحدة، اليابان، الهند، وأستراليا، والمعروف اختصارًا بـ الـ»كواد» في حين تُسهم القمة في تعزيز موقع الصين كمحور رئيسي في النظام المتعدد الأقطاب.
خلاصة ونتائج القمة
من منظور سياسي وجيوسياسي وعسكري واقتصادي يمكن القول أن انعقاد القمة قد شكل محطة فارقة في مسيرة الدول المشاركة فيها ويمكن تلخيص ما جرى في القمة وما صدر عنها بالآتي:
أولاً، إعلان وتبني رؤية «أرض واحدة، أسرة واحدة، مستقبل واحد». فقد وافقت الدول الأعضاء رسميًا على الرؤية الهندية التي أطلقها رئيس الوزراء ناريندرا مودي، ضمن «إعلان تيانجين»، واضعة أسساً أيديولوجية للتعاون المستقبلي القائم على الأمن، والربط، والفرص المشتركة.
ثانياً: إطلاق مبادرات اقتصادية وتجارية جديدة، وتمثّل ذلك باقتراح الرئيس الروسي فلاديمير بوتين إصدار سندات مشتركة بين أعضاء المنظمة، وتأسيس بنية دفع وتصفية مستقلة، بالإضافة إلى بنك للمشاريع الاستثمارية المشتركة لتعزيز التعاون الاقتصادي وحماية الاقتصاد من الصدمات الخارجية، وبتأكيد الصين نيتها إنشاء بنك تنمية لمنظمة شنغهاي، وكذلك بناء ست منصات تعاون جديدة في عدة مجالات: الطاقة، الصناعة الخضراء، والاقتصاد الرقمي، والابتكار التكنولوجي، والتعليم العالي، والتدريب المهني.
ثالثاً: توسيع وتطوير هيكلية المنظمة. فقد اعتمدت القمة إستراتيجية التنمية حتى عام 2035، وأطلقت الوثيقة المعروفة باسم «إعلان تيانجين». وتم تأسيس أربعة مراكز جديدة للمنظمة في مجالات: مكافحة الجريمة المنظمة العابرة للحدود، والأمن المعلوماتي، ومكافحة المخدّرات، وتحديات الأمن الداخلي. كما جمعت المنظمة بين فئات «المراقب» و«شريك للحوار» لتصبح فئات المنظمات الشريكة موحدة، وتم قبول لاوس كشريك للحوار.
رابعاً: التصريحات الرمزية والقضايا؛ أصدرت المنظمة بيانًا قبل الاحتفال بالذكرى 80 لنهاية الحرب العالمية الثانية، ومعاهدة الأمم المتحدة. تؤكد فيه أن المنظمة «تقف في صفّ التاريخ الصحيح». وتداولت القمة مواضيع عدة مثل: الأمن، والتجارة، والاستقرار الإقليمي، وتنمية البنية التحتية في سياق مبادرة «الحزام والطريق»، فيما أكد قادة المنطقة دعمهم لمنع التطرّف، ودعم التجارة المتعددة الأطراف، والحفاظ على سيادة الدول وحقها في التنمية.
خامسا : الضربة العسكرية القوية التي وجهتها روسيا لأوكرانيا لم تكن سوى تأكيد وتنفيذ لكلمات الرئيس الروسي فلاديمير بوتين خلال زيارته الأخيرة للصين ومشاركته في القمة ، وتشديده على أنه في حال استحالة حل الأزمة الأوكرانية سلميًا، فإن روسيا مستعدة لحل جميع المهام الموكلة إليها بالقوة ، والإشارة إلى أن القوات المسلحة الروسية تتقدم بنجاح في جميع الاتجاهات، بينما تعجز القوات المسلحة الأوكرانية عن القيام بعمليات واسعة النطاق، في محاولة للسيطرة على الحدود ، رغم تحمس الرئيس الفرنسي إيمانوئيل ماكرون ورئيس الوزراء البريطاني كير ستارمر ، إلى عقد اجتماع في باريس بحضور ” المهرج ” الأوكراني زيلينسكي ، والمبعوث الرئاسي الأمريكي الخاص ستيفن ويتكوف ، الذي غادر قصر الإليزية بعد مضي 20 دقيقة ، بعد أن تمكن عقد اجتماع منفصل مع فولوديمير زيلينسكي .