غزة تحت ستار الوعود
مقال تحليلي بقلم عبدالسلام سلام:
كيف تخفي خطة ترمب للسلام أفخاخًاً قاتلة تحوّل السلام إلى وسيلة للقضاء على حقوق الفلسطينيين في مقاومة الاحتلال وإقامة دولتهم المستقلة "

مقال تحليلي بقلم عبدالسلام سلام:
كيف تخفي خطة ترمب للسلام أفخاخًاً قاتلة تحوّل السلام إلى وسيلة للقضاء على حقوق الفلسطينيين في مقاومة الاحتلال وإقامة دولتهم المستقلة "
مقدّمــة:
أُعلن في يوم أمس الخميس عن خطة أميركية لوقف الحرب في غزة ومرحلة انتقالية لإدارتها وإعادة إعمارها، طرحها دونالد ترمب بعد لقاءات مكثفة مع قادة عرب ومسلمين. الخطة التي أعلنت تختلف تماما عن الخطة التي نوقشت في اجتماع القادة العرب والمسلمين مع ترمب قبل أسابيع فقد جرى تغييرها بعد لقاء ترمب برئيس حكومة العدو الإسرائيلي نتنياهو بداية الأسبوع الماضي وفقا لرؤية إسرائيلية واضحة.
فالخطة المعلنة تُقدّم وعودًا إنسانية تبدو مغرية — من إيقاف الحرب وإطلاق الأسرى إلى إدخال مساعدات وإعادة إعمار — لكنها في العمق تكرّس رواية إسرائيلية عن أسباب الصراع وتفتح أبوابًا واسعة أمام تدخلات دولية واقتصادية تُقوّض فرص قيام دولة فلسطينية ذات سيادة. هذه الخطة، بقراءتها المتأنية، هي الوجه الآخر لما عُرف سابقًا بـ«صفقة القرن»: حلول اقتصادية وإدارية تُقزّم البعد السياسي وتُشترط الحقوق الوطنية الفلسطينية بمقاييس إسرائيلية و خارجية.
الخطة الأميركية الحالية في ظاهرها قد تبدو كفرصة إنسانية لكنّها حزمة شروط سياسية وأمنية واقتصادية تحمل في طياتها أفخاخاً ومخاطر خبيثة: تهجير وتدخّل واستنزاف للحقوق الفلسطينية إذا لم تُقابلها ضمانات دولية حقيقية ومشاركة فلسطينية قوية.
وبالمجمل فالخطة تعتبر الوجه الآخر لصفقة القرن — وتحقق حلم ترمب بجعل غزة "ريفيرا الشرق الأوسط"
إن كان هناك درسٌ واحد، فهو أن «الانتصار الإنساني المؤقت» لا يكفي لوحده؛ الحقوق السياسية والسيادة الوطنية والتحرر تبقى الهدف الاستراتيجي الذي لا يجوز التفريط به مقابل وعود مؤقتة أو شروط مفخخة تغتال مستقبل الدولة الفلسطينية.
في هذا المقال أجري قراءة معمقة ومتكاملة لبنود الخطة العشرين: منها خمسة إيجابيات ظاهرية معلنة، مقابل خمسة عشر فخا خبيثا خطيرا للغاية. مع توضيح الأثر لكل بند على حقوق ونضال الشعب الفلسطيني لإقامة دولته.
ماذا تعدّ الخطة؟
الخطة تقدّم إطارًا من مرحلتين: المرحلة الأولى لوقف القتال وتبادل أسرى وإدخال مساعدات وإطلاق عملية إعادة إعمار تحت إشراف «مجلس سلام» دولي.
المرحلة التالية تُركّز على «إصلاحات» مؤسساتية للسلطة الفلسطينية وفقا لخطة وضعها ترمب في 2020 م ونزع السلاح عن غزة كشرط لانسحاب إسرائيلي جزئي أو تدريجي وتحويل غزة إلى منطقة «آمنة» و«قابلة للاستثمار» — ما وصفه البعض بـتحويل غزة إلى "ريفيرا الشرق الأوسط".
الإيجابيات الخمس المعلنة (ما تعِده الخطة)
- إنهاء مخطط التهجير — الإعلان عن إلغاء أي سياسة تهجير قسري مخطط لها (مطلوب، لكن بدون ضمانات صارمة).
- إدخال المساعدات دون قيود — فتح قنوات إنسانية لتغطية احتياجات طارئة ما يعني استمرار معاناة التشرد والضياع لسكان غزة.
- الإفراج عن الأسرى الفلسطينيين (مع فيتو على الشخصيات القيادية) وإطلاق سراح الرهائن الإسرائيليين — تظهر كخطوة إنسانية وسياسية لتخفيف المعاناة بينما عمليا تنزع الورقة الوحيدة بيد حماس.
- وقف الاحتلال والاستيطان في غزة — التزام ظاهري بإنهاء العمليات العسكرية والوجود الاستيطاني داخل القطاع وعمليا تفتح لإسرائيل المجال بالتدخل وقتما تشاء تحت أي مبرر من خلال وجودها في المنطقة العازلة.
- بدء إعادة إعمار يربط بمعايير اصلاح السلطة الفلسطينية وفقا لخطة ترمب 2020م وهي مستحيلة التحقيق لأنها تنهي تماما حق الفلسطينيين في تقرير المصير ومقاومة الاحتلال , كما يرتبط إعادة الاعمار بمعاير إدارية واقتصادية.
التقييم السريع: هذه وعود إنسانية هامة على المستوى القريب. المشكلة أن معظمها مُقيَّد بشروط وبدون ضمانات تنفيذية ملزمة أو آليات رقابية مستقلة وذات شرعية او حتى مشاركة فلسطينية.
الخمسة عشرة (15) فخًّا (قراءة تفصيلية لبنود الخطة التي تضعف حقوق الفلسطينيين)
- تبنّي الرواية الإسرائيلية بأن غزة "مصدر الإرهاب"
الخطة تضع على رأس أولوياتها تحويل غزة إلى «منطقة خالية من الإرهاب»، وكأن المشكلة الأساسية هي وجود فصيل مسلّح فقط، متجاهلة الاحتلال والحصار كعوامل محركة للصراع وسبب جوهري للحرب. هذا التفسير يُمحّي سياق الاحتلال ويقوّض الحق في المقاومة وفق القوانين الدولية كما يفهمها الفلسطينيون.
- نزع السلاح غامض المعايير والمهل
نزع السلاح يُعرّف بشكل مُبهم: ما هو السلاح الذي يجب نزعه؟ متى؟ ومن يقيم تحقق الشروط؟ هذا يمنح إسرائيل ذريعة للتدخّل مرارًا بذريعة "تبقّي الخطر".
- الانسحاب الإسرائيلي مشروط ويترك منطقة عازلة
الانسحاب مرتبط بتحقق نزع السلاح — ما يعني أن إسرائيل تحتفظ بنطاق أمني يسمح بالتدخل أو القصف عند أي «خلل» يُزعم وجوده.
- التهميش السياسي للسلطة الفلسطينية وإطالة مرحلة الوصاية
إدارة مؤقتة أو مجلس سلام دولي يسبق إعادة الاعمار بصلاحيات كاملة للسلطة، مما يكرّس وضعًا انتقالياً قد يمتد لسنوات طويلة (كما حدث في اتفاقية أوسلو وفترة انتقالية بلا نهاية امتدت حتى الان).
- مجلس السلام: مجلس وصاية بواجهات استثمارية
مجلس يُهيمن عليه فاعلون سياسيون واقتصاديون ودعاة استثمار وليس فاعلون سلام— خطر أن يتحول إلى جهاز لإعادة تشكيل غزة وفق منطق الربح لا وفق احتياجات السكان.
- تجريد الفلسطينيين من أدوات المقاومة والدفاع
نزع السلاح يعني عمليا القضاء على حق وقدرة الفلسطينيين على مقاومة ممارسات الاحتلال المستقبلية، ما يغيّب أي ضمانات لوقف انتهاكات إسرائيل على الأرض سواء في غزة او بقية المناطق الاخرى.
- التحويل الاقتصادي إلى مشروع استثماري لا خدماتي
تتضمن الخطة مشاريع سياحية واستثمارية ولا يأخذ في الاعتبار احتياجات السكان من منازل ومدراس ومستشفيات وهذا سيؤدي ال تُطرد السكان تدريجياً وبشكل طوعي، وتحوّل إعادة الإعمار إلى مشروع يلبي اهداف وغاية المستثمرين على السكان المحتاجين.
- شرطية المساعدات بالإصلاحات — ابتزاز سياسي مالي
ربط ضخ التمويل بإصلاحات سبق وان ثبت استحالة تحقيقها وتُفهم بحسب معايير خارجية يعطي قدرة ضغط لتقويض المطالب الوطنية والمقاومة القانونية, ويتبنى مضامين القانون القومي الذي اقرته إسرائيل في العام 2028م والذي يتضمن حصر الحق بتقرير المصير لليهود فقط وهذا ينسف كل نضالات الشعب الفلسطيني وكذلك ينسف الجهود الدولية بتطبيق حل الدولتين (رغم انه اعتراف بإسرائيل دون قابلية إقامة دولة فلسطينية مستقلة)
- وصف المقاومة كـ«إرهاب/تطرف» موسّع
مفاهيم فضفاضة عن «التطرف» قد تشمل أي خطاب نقدي ضد إسرائيل أو محتوى المناهج التعليمية الوطنية ومنها على سبيل المثال أي عبارة عن ذكر الجهاد او حتى النصوص القرآنية التي تتحدث عن الجهاد و اليهود), ما يُقوّض تشكيل الهوية الوطنية والإسلامية للشعب الفلسطيني وانكار حقه المشروع في مقاومة المحتل وتقرير المصير.
- الاعترافات المقيدة بالقضايا الأساسية (القدس، اللاجئون، الحدود) الشروط أو المعايير التي تفرض عدم معالجتها أو تأجيلها تُجمد الحقوق الأساسية وتبقي ملف الدولة قائمًا على تفاوض لاحق غير مضمون.
- تهجير ضمني عبر جعل غزة «غير قابلة للحياة» اقتصاديًا واجتماعيًا
بطء إعادة الإعمار أو سياسات اقتصادية تجعل العيش صعبًا تُعد شكلًا من أشكال التهجير الطوعي المقنّن فلم تحدد الخطة جدول زمني لإعادة الاعمار وانتهائه وآلياته .
- فصل غزة عن الضفة: كسر الوحدة الوطنية
إدارة غزة من قبل مجلس وصاية خارجي بمعزل وغياب مشاركة فعلية لفلسطينيي الضفة تقوّض مشروع دولة فلسطينية واحدة بالمواصفات الدولية.
- التطبيع السياسي والدبلوماسي كغطاء للترتيبات
توظيف علاقات التطبيع العربية لتثبيت حلّ جزئي يهمش الحقوق الوطنية للفلسطينيين.
- تفويض أمريكي وإسرائيلي للحكم وتنازل عربي ضمني
تكرار دور الولايات المتحدة كمتحدٍ ومحور لضمان التنفيذ يجعل القرار بيد طرفٍ منحاز ثبت انه طرف في الحرب والدمار والقتل.
- غياب مرجعية دولية متعددة الأطراف ملزمة
غياب الأمم المتحدة والجهات الموثوقة ذات شرعية دولية كضامن يجعل كل شيء قابلاً لإلغاء أو تبديل وفق موازين القوى.
علاقة الخطة ب«حل الدولتين» وصفقة القرن
الخطة لم تذكر لفظيًا «حل الدولتين»، لكنها في الجوهر تضع شروطًا تجعل أي سيادة فلسطينية مستقبلية محدودة ومشروطة بإصلاحات مستحيلة وإشراف خارجي. هذا يكرّس بوضوح «صفقة القرن»: حلول اقتصادية وسيادية مجزأة تُقدَّم على أنها بديل عن مطالب الحقوق الأساسية. إن كانت هناك «دولة» مستقبلية فهي مرهونة بجدول زمني مفتوح، مع شروط تعطي الطرف الأقوى القدرة على التحكم , وتنسف الجهود الدولية التي أدت الى الاعتراف بدولة فلسطين.
دور الشخصيات والهيئات المقترحة (ترمب — بلير — مجلس السلام)
دور ترمب: تقديم الخطة باعتباره الضامن يمثل فخا خطيرا: فالتاريخ السياسي والأداء الخارجي لسياساته التي يمارسها ويصرح بها بوضوح وباستمرار يرهن حق الفلسطينيين في «كلمة شخص منحاز وطرفا في الحرب» كضمانة.
دور توني بلير: إدراج شخصية مثل بلير في موقع تنفيذي وحاكما مباشرا لغزة يُثير الكثير من التساؤلات حول الهدف من اختياره , وهو المعروف بكرهه للمسلمين وانحيازه التام لإسرائيل, سيخلق رفضاً شعبياً وسياسياً لدى كثير من الفلسطينيين والعرب بسبب سياسات حكومته السابقة وتورّطها في قضايا إقليمية مثيرة للجدل. سواء وُصف بأنه «مجرم حرب» أو «شخص مثير للجدل»، فإن إدخاله عمليًا في إدارة إعادة الإعمار يفتقد إلى مقبولية محلية بل ويجعل كل قراراته تكيف وفقا للهوى الاسرائيلي.
مجلس السلام: إذا لم يحدد دوره ومهامه بوضوح ولم يضمن مشاركة فلسطينية فاعلة ومرجعيات متعددة الأطراف، فإنه سيكون هيئة وصاية تستبدل المطالبة بالسيادة بحقوق مؤقتة ومشروطة وتمكن إسرائيل من تنفيذ سياساتها ومخططاتها.
خلاصة تقييمية
الخطة قد توفر وقفة إنسانية ضرورية — وقف إطلاق نار، تبادل أسرى، وإدخال مساعدات. لكنها لا تمثل حلًّا سياسياً حقيقياً لمشكلة الاحتلال ولن تكون بديلاً عن الحقوق الوطنية والثوابت الفلسطينية إذا تم إملاؤها وتطبيقها أحاديًا وبالإكراه والابتزاز. خطرها الأكبر هو تحويل الحقوق إلى «سلع قابلة للتطبيق» بحسب أجندات اقتصادية وسياسية خارجية، مع تكريس فصل غزة عن الضفة وبروز وصاية دولية طويلة الأمد ربما تمتد لعقود.
توصيات عملية (سياسية وإعلامية)
- شرطية واضحة وملزمة: أي قبول فلسطيني أو عربي للخطة يجب أن يكون مرتبطًا بخريطة زمنية واضحة ومعلنة لاستعادة كامل الصلاحيات ومرجعيات دولية متعددة الأطراف (الأمم المتحدة، الاتحاد الأوروبي) كضامنين.
- مشاركة فلسطينية كاملة وفورية: لا قرارات عن الفلسطينيين من دون الفلسطينيين؛ كل مجلس أو هيئة إشرافيه يجب أن تتضمن تمثيلًا فلسطينيًا.
- آليات مراقبة مالية وقانونية مستقلة: لضمان أن الإعمار يخدم سكان غزة ويمنع تحويله إلى مشاريع تهجير واستثمارية بحتة.
- تعريف دقيق وشفاف لعملية «نزع السلاح»: مع جداول زمنية وآليات استبدال (قوات أمن مدنية فلسطينية محترفة) وضمانات أمنية دولية للحد من التهاون.
- قيام حملة إعلامية فلسطينية — عربية موحدة: تبرز الفرق بين المساهمات الإنسانية والحقوق السياسية، وتوضّح الخطوط الحمراء المرفوضة.