وثائق عرفية وقبلية من برط اليمن "22"
لا تزال طبيعة الخلافات العقائدية بين آل العنسي في برط وأنصار الدولة القاسمية في صنعاء غير جلية تمامًا إذ لم تصلنا مصادر كافية توضّح جذور هذا التباين أو أبعاده الفكرية غير أن فهم الأسباب الاجتماعية والاقتصادية والسياسية التي دفعت قبائل برط إلى دعم بيت العنسي بإصرار
بل وإظهار قدر كبير من العداء تجاه سلطة الدولة عند الضرورة يبدو أكثر وضوحًا وقابلية للتفسير .
لقد كانت اليمن السفلى منذ القدم القلب الزراعي الخصيب للبلاد بينما تميز اليمن الأعلى موطن القبائل بمناخه الأشد جفافًا وهو جفاف كان أكثر قسوة في المناطق الشرقية والشمالية ومنها برط وقد لعبت هذه الظروف المناخية دورًا أساسيًا في تشكيل علاقة هذه القبائل بالدولة وفي تكرار تحركها جنوبًا عبر التاريخ
ففي أواخر القرن السابع عشر حين تحركت بطون من بدو آل سليمان جنوبًا كانت المجاعة قد بلغت حدًّا وتوالت الكوارث الطبيعية بعد ذلك؛ إذ ضربت البلاد مجاعة قاسية في عامي 1723 و1724م بينما شهد عام 1795 م موجة جفاف دفعت قبائل برط للنزوح جنوبًا عبر صنعاء وفي عام 1823م دفع الجفاف مرة أخرى قبائل المنطقة إلى غزو النطاق الزراعي في اليمن السفلى بينما شهد عام 1835م مجاعة جديدة اضطرت معها النساء والأطفال إلى النزوح غربًا في حين اتجه الرجال شمال غربًا للغارات كما يلخص قول شائع معنى هذه الهجرات: “إن كنت هاربًا من الموت فلا مفر وإن كنت هاربًا من الجوع فاسكن سهل بن ناجي”
وتظهر سجلات صنعاء في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر تكرار حضور رجال قبائل ذي محمد وذي حسين في محيط العاصمة حيث كانوا يطالبون الأئمة بالأموال وفي كثير من الأحيان يضطر الحكام إلى دفع مبالغ لهم لتجنب المواجهة فقد كانت برط منطقة فقيرة غير قادرة على الاكتفاء الذاتي الأمر الذي جعل من الجنوب الزراعي المنفذ الطبيعي للبحث عن القوت .
وتسجّل الوثائق مرارًا مشاركة قبائل برط في دعم أو معارضة هذا الإمام أو ذاك وتهديدهم صنعاء أومشاركتهم في معارك اليمن السفلى ففي جفاف 1823م اجتاحت مجموعات منهم منطقة الجنوب من ممر سمارة حتى وادي إب كما لو أنهم ورثوا الأرض عن آبائهم وبالفعل استقر كثير منهم هناك وتزوجوا وعاشوا لسنوات حتى أن بعضهم كما قيل نسي الشرق أي برط ويذكر المؤرخين أنهم امتلكوا المنطقة كلها تقريبًا حتى تدخل الفقيه سعيد وطردهم نحو عام 1840م ومع ذلك ظل نفوذهم قائمًا بدليل احتفاظ أبناء أحمد صالح ثوابة بأرض والدهم في ناحية بضاعة بعد إعدامه عام 1848م
تشير الشواهد التاريخية اليوم بوضوح إلى أن عددًا من الأسر الكبيرة المنتمية إلى شيوخ القبائل برز دورها في بدايات القرن الثامن عشر ففي حدود عام 1710 م لمع اسم ابن جزيلان من ذي موسى في ذي محمد بوصفه أحد أبرز الشخصيات التي أظهرت شجاعة لافتة في مواجهته لابن حبيش من سفيان وبعد ذلك بنحو ثلاثة عقود وتحديدًا في الأربعينيات من القرن ذاته دخل ناجي ناصر جزيلان في تحالفات وصراعات مع جيل جديد من بيت حبيش ومع حسن أحمد العنسي الذي كان يُنظر إليه آنذاك كزعيم لقبائل ذي حسين وقد كان مسرح معظم هذه التحركات منطقة اليمن السفلى التي كانت في تلك المرحلة مكتظة بالقبائل وتعيش حالة من الاضطراب بفعل التنافس على الأرض والموارد .
إلا أن العلاقة بين برط واليمن السفلى لم تكن مقتصرة على بروز عدد محدود من العائلات القبلية الكبرى؛ فعدد عائلات المشايخ ذات التأثير كان كبيرًا ومتباينًا غير أن الواضح أن الثروة التي سهّلت بروز بعض هذه الأسر لم تكن في الغالب ناتجة من موارد برط نفسها وهي منطقة معروفة بندرة أراضيها الزراعية ومحدودية إنتاجها بل يبدو أنّ هذه الثروة جاءت من مناطق أخرى وربما من نشاطهم في اليمن السفلى أو من تحالفاتهم السياسية وهو ما أتاح لهم امتلاك العبيد وتشغيل المزارعين بنظام المشاركة في أماكن خارج برط .
أما داخل برط نفسها فلا يبدو أن الشيوخ أو رجال القبائل كانوا يعتمدون على تشغيل أفراد قبائل أخرى بصورة واسعة أو أنهم امتلكوا مساحات كبيرة من الأراضي يمكن أن تشير إلى هيمنة اقتصادية واضحة والدليل على ذلك أن سجلات الملكية وأنماط توزيع الأراضي التي تمت دراستها سابقًا لا تُظهر علامات كافية تدل على وجود سيطرة رئيسية أو تفوق اقتصادي لأسر بعينها داخل المنطقة .
ولا يزال من غير الواضح ما إذا كانت الأنماط الاقتصادية والاجتماعية في مناطق مثل المخادر أو القاعدة أو بُعدان تختلف عن تلك التي لوحظت في برط أو ما إذا كانت تشترك معها في السمات نفسها فالمصادر المتاحة لا تزال شحيحة مما يجعل من الصعب تحديد طبيعة السيطرة أو النفوذ الاقتصادي فيها مقارنة ببرط .





